خالد ملص: بحثاً عن عمارة الناس


ما هو دور المعماري، كمواطن ومصمِّم، في حالة الحرب؟ إنه أحد الأسئلة المركزية التي يطرحها المعماري السوري المقيم في نيويورك، خالد ملص (دمشق، 1981)، الذي تذهب أعماله المعمارية والإبداعية إلى أبعد من مجرّد طرح الأسئلة، لتُشكّل المعرفة المعمارية منطلقاً لإعادة “احتلال” الحيّز العام، فيتطوّع لخدمة الجميع بدلاً من خدمة السلطة/ النفوذ.

يتجلّى ذلك، مثلاً، في ثلاثة من مشاريعه الأخيرة: “تنقيب السماء” و”القدرة الكهربائية في سورية” و”الثورة مرآة”. المشروع الأخير أنجزه بمشاركة كلّ من اللبنانيين سليم القاضي وألفرد طرزي وجنى طرابلسي، وهو جزء من “مجموعة سِجل” التي أسّسها الأربعة، وضمّن كذلك مشروعَي ملص السابقَين.

عن “سجّل”، يقول ملص، في لقاء مع “العربي الجديد” إن المجموعة “تحاول التنقيب في تاريخ المنطقة العربية في القرن العشرين، ومن ثمّ استلهام شيء كان موجوداً وانتهى أو تُرك”.
درس ملص الهندسة المعمارية في “الجامعة الأميركية” في بيروت، وحاز شهادة ثانية في التخصّص ذاته من “جامعة كورنيل” في نيويورك. عاش خارج سورية، ليس فقط للدراسة، بل للعمل كمعماري في مدن عديدة من بينها إسطنبول وروتردام الهولندية وبازل السويسرية، قبل أن يستقر مجدّداً في نيويورك لدراسة الدكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي في جامعتها.

وعن تلك النقلة وأسبابها، يقول “من خلال اشتغالي التقليدي، كمعماري، في مشاريع كبيرة، في مدن أوروبية وغير أوروبية، وصلتُ لاستنتاج مفاده أن تلك المشاريع التي أعمل عليها تخدم أناساً ذوي نفوذ وسلطة من خلفيات عديدة، لم أحبّهم في كثير من الأحيان. الأعمال المعمارية تُنجز لترسيخ تلك السلطة”.

ينوّه ملص، في الحديث عن تلك الفترة، إلى أمر أدركه أثناء الدراسة، ولكن مشاغله غيّبته: “العمارة أداة يمكن لكل فرد استخدامها، وعليها أن تخدم المجتمع. لكننا تعوّدنا أن نرى الحكومات والأشخاص ذوي النفوذ يستخدمونها لترسيخ سلطتهم. هذه القوّة يمكن أن تكون للناس وبينهم”.

يعتقد ملص أن “الثورة، من تونس إلى العراق وسورية وليبيا ومصر وغيرها، أثبتت ذلك رغم السقم الذي أصاب تلك الثورات”، مضيفاً أن الثورة أخذته إلى الدكتوراه ومشاريعه الأخرى، المعمارية والفنية، بشكل أسرع، وجعلته يترك العمل كمعماري تقليدي “رغم ما آلت إليه تلك الثورات ورغم الحقد والألم والخوف، هناك أمل ورغبة في أن أشارك فيها كمعماري، ولو عن بعد”.
ولعلّ المشاركة عن بعد هي ما يميّز مشاريع ملص الثلاثة تلك. بدأت فكرة الأوّل عندما تلقّى دعوة من المسؤول عن “معرض العمارة الدولي” لتمثيل سورية، بشكل غير رسمي، في “بينالي البندقية” عام 2014. حينها، أنتج ما سماه “جناح النازح”، وبدل صرف المنحة المالية على جناح يدوم بضعة أيام، قرّر استثمارها في مشروع على الأرض السورية، تكون فيه الصور والأدوات والمجسّمات الفنية هي السفير إلى الجناح، إضافة إلى ورش عمل وعرض أفلام.
وفي المقابل، استثمر المال الذي حصل عليه لبناء بئر في إحدى القرى السورية لتلحقها بئر أخرى. ويصف العمل على ذلك المشروع بأنه “كان بشكل سري بعدما قصف النظام مصدر المياه في القرية، وأصبحت المليشيات تبيع المياه للأهالي بأسعار خيالية. قمت بمساعدة الشباب على الأرض بالتخطيط والتمويل لبناء الآبار ووصلها بشبكة المياه الموجودة في القرية. وهذه الآبار تخدم اليوم 27 ألف شخص يومياً”.

وعن معنى تلك الآبار فنياً وكيف عرضها في “بينالي البندقية”، يقول “القادة المستبدّون يضعون نصباً وتماثيل تخرج من الأرض إلى الفضاء لتخلّدهم ولا أحد يستفيد منها. كما أنها تحتل حيزاً عاماً لخدمة سلطة فرد. في عملنا، قمنا باستخدام العادي، وهو بناء بئر المياه أو حاكورة لتوليد الكهرباء كما في المشروع الثاني، لتخدم الفرد ولا تسقط من السماء لتقتلهم. إنها نصب اليومي والعادي”. إذا، هي العمارة التي تذوب داخل البنية التحتية الثورية الجديدة لتخدم الناس وتصبح جزءاً إيجابياً من حياتهم يولّد الحياة.

أمّا في ما يتعّلق بعنوان “تنقيب السماء”، وهو العنوان الذي حمله كتيب رافق المعرض كذلك، فيوضح ملص أنه جاء للتفاعل مع ثيمة البينالي لذلك العام؛ “استيعاب الحداثة”. يقول المعماري السوري إنه اختار أربع مراحل تاريخية نقّب من خلالها في سماء سورية وتوقّف عندها في الكتيب. أوّلها هي أول طائرة عثمانية حلّقت في سماء سورية عام 1914، والقصف الفرنسي عام 1925، ورحلة الفضاء لمحمد فارس عام 1987، واستخدام نظام الأسد البراميل المتفجّرة في قصف المدنيين.

في مشروعه الثاني يتحوّل من المياه إلى العمل على مشروع لتوليد الكهرباء بإمكانيات بسيطة على الأرض السورية كذلك، وقد أرفق المشروع بكتيب وصور فنّية عُرضت في “بينالي مرّاكش” عام 2015. لكن، لماذا الكهرباء؟ يبتسم ملص عند الحديث عن “سحرها وقدرتها الخفية”.

هنا، يتوقّف عند خمس قصص ومراحل من تاريخ سورية (الكبرى) والتزوّد بالكهرباء، منقّباً في التاريخ على الأرض هذه المرّة، فيأخذ التلغراف وقصّة شيخ من السلط (الأردن اليوم) حلم بمؤامرة تُحاك ضدّ السلطات وأرسل للديوان قصّة حلمه وما ترتّب على ذلك قبلها وبعدها.
وقف ملص كذلك عند الترماي والإضراب الستيني عام 1935 نتيجة رفع أجرة السفر وما آل إليه ذلك الإضراب من التفاوض على استقلال سورية، ثم يعرّج على المخرج السوري عمر أميرلاي وتصويره فيلمين حول مشروع سدّ الفرات وتناوله النقدي لفيلمه الأول من خلال فيلمه الثاني.

وفي المحطة الرابعة، يتوقّف عند قضية استخدام الحداثة للتعذيب، أي التعذيب بالكهرباء، ويأخذها عن طريق مسرحية “كاسك يا وطن” للماغوط. وفي محطّته الأخيرة في الكتيب، يتناول مشروع توليد الكهرباء الذي ساعد في بنائه. المشروع بدأ قبل أن ينضم إليه ملص حيث قام الحداد أبو علي القلماني (اسم مستعار) في الغوطة الشرقية بتحويل ساقية (دولاب مياه) قديمة إلى موّلد كهرباء لمحله وبيته.
اتصل ملص بالمصوّر ياسين البوشي، وهو الفنان الذي أخذ الصور، وبدأ الثلاثة مشروعاً صممّ ملص خلاله “عنفة رياح”، يمكنها أن تساعد على توليد الكهرباء بشكل دائم بعيداً عن المياه ولعدد كبير من الناس، تلاها بناء “عنفة” أخرى تُستَخدم كذلك لتوليد الكهرباء لبناية عامة.

عُرض الجزء الأول من مشروع ملص الثالث، والمشترك مع آخرين، في النرويج مؤخّراً، وهو عبارة عن خمسة آلاف مرآة صغيرة ممغنطة يمكن تعليقها في أي مكان وكتب عليها بالعربية “الثورة مرآة”.
المرايا دائرية ومصنوعة من مادة البلاستيك وكُتبت عليها بخطّ صغير معلومات عن المشروع ورقم لكل مرآة. يحاول المشروع تكوين بنية تحتية في جميع أنحاء العالم على عدة صعد “المرآة لها عدة معان ورموز. وفي هذه الحالة، تشكّل حيزاً لانعكاس الذات والتأّمل، حتى لو لم ينظر الشخص إليها بشكل مباشر. عند تعليقها في مكان ما تنعكس أشكال المارّة فيها”.
لكن فكرة المشروع لا تنتهي عند ذلك، فملص ورفاقه يرغبون في تطويره وبدء مشروع تكميلي جديد يتعلّق بتاريخ “الفرجة” أو النظر، بما في ذلك كتاب يحفر أيضاً في الأرشيف و”النظر” إلى منطقتنا من زوايا مهملة لم يجر الالتفات إليها من قبل.



صدى الشام