أحلام بعد منتصف الطريق


عبد الرزاق دياب

“راقصًا هنديًا” كانت أولى أحلامي بعد فيلم طويل مثل “راقص الديسكو” الذي عرضته أغلب دور السينما بدمشق، وفي كل عرض جديد أخرج بنفس الأمنية وأفوز ببطلة الفيلم، وأبكي لأجلها. في نفس الفترة الزمنية القصيرة شاهدت أغلب أفلام بروس لي وجاكي شان في سينما أوغاريت بمنطقة الحجاز، وتمنيت أن أكون بطلًا نبيلًا يقسم لوالدته أنه لن يستخدم قبضته، ومن ثم يضطر للحنث بوعده من أجل هدف أسمى من القسم.

في سينما الزهراء والسفراء تابعت أجمل أفلام محمود عبد العزيز، وحسين فهمي، ومحمود ياسين… وإن كنت متعاطفًا مع أحمد زكي لسمرته، وذات مرة قالت لي صديقة كم أتمنى أن أنام على صدره، ولم أدرك حينها سر هذا الشوق من امرأة لرجل مثله.

في هذه المعمعة السينمائية الغزيرة لم يفتني أي من أفلام الممثلة السورية الجريئة نهاد علاء الدين “إغراء”، مع بطليها الدائمين أديب قدورة وناجي جبر، وأحببت جدًا دورها في فيلم “راقصة على الجراح” مع يوسف حنا.

بعدها لم يعد مهمًا ما قرأت، وما فعلت، كانت سنوات غريبة تلك التي أمضيتها في البحث عن كلمات مختلفة…قصص أخرى غير التي تشاهدها على شاشة كبيرة بيضاء مع مجموعة من البشر، أشياء تفعلها وحيدًا دون ضجيج كبير كما لو أنها عادة سرية دائمة.

كانت وما زالت هي الكتابة… إفراغ ما في جوفك من صياح ووحدة، وغثيان من خلائط معرفية لا تكنّ لها مودة سوى أنها شوّهت رؤيتك، وصرت ترى بعيونك فقط… بعيون من كتبوا قصصهم على أنها الحقيقة الوحيدة التي تنازعتك سنوات كفرت بها، وهنا تبدو في مرآتك كمن يبحث عن صورته الجديدة أبدًا دون جدوى، كانت الكتب آلهة تلد آلهة، وأوثان تتكاثر فقط لتبصق في وجهها.

ثمة أمر آخر في مرورك بهذا السِّفر الآدمي حطم أيقونتك الخالدة، مررت ذات يوم بكل شوارع مدينتك، ورسمتها مفردات دالة على روحك ثم فجأة تبدلت المعاني إلى صلوات مذهبية سوداء، كان صراخًا عميقًا من الأموي، وهبات من بعيد في الربوة والهامة، ومن بين البساتين التي كانت سوق مشاوير… ألهذا الحد يصير الوطن حكاية محروقة؟

الصحافة هي أيضًا لم تكن مهنة ممتعة، والقصيدة هي الأخرى شاقة على من لم يعد له نفَس لعوب، ولهذا بات يقينًا أن أذهب يوميًا كأي مهاجر للحديقة المجاورة لبيتي أجلس على كرسي أنيق، وأستجمع قوتي كي أقنع نفسي بأني أستطيع المحاولة مرة أخرى… ولا أستحقها.

في الطريق إلى أن تفعل شيئًا مهمًا ستلبس عباءات كل من مروا، وستقرأ كل قصائدهم معتقدًا أنك من كتبها، وأما العناوين الصحفية التي سرقها منك الزملاء فهي لم تكن لك، والنساء اللواتي مررن بأيامك كن هاربات من روايات الآخرين، والوطن كان شوارع وجدران وبيوتًا موجودة في كل مكان، وما كنت تشعر به حين مرورك في باب توما كانت جملة هاربة من قصيدة لمحمد الماغوط.

بعد أن تجاوزت الأربعين، كل ما سبق من هذيان اعتقدته واقعًا، كانت أحلام ما بعد منتصف الطريق إلى النهايات.

“الترا صوت”