الأساس الدستوري للسلطة القضائية في سورية
8 نوفمبر، 2016
حبيب عيسى
الدستور أبو القوانين، ومرجعية دستوريتها، وهو الذي يحدد مجال عمل السلطات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأي خلل في الدستور، سواء في ديباجته، أم في مادة من مواده سيؤدي إلى خلل ينخر في جميع مؤسسات المجتمع والدولة، وبالتالي؛ فإن الخلل في القضاء السوري بدأ من العوار الذي أصاب الدستور، وتقويم الخلل -بالتالي- لا بد أن يبدأ من الدستور.
لذلك؛ نبدأ بتقديم لمحة تاريخية عن التحولات الدستورية في سورية، ولا نقول التطور الدستوري، لأن ذلك التطور الدستوري الذي كان بمنحى تصاعدي من دستور 1920؛ وحتى دستور 1950 لم يتوقف، وحسب، عند دستور الخمسين، وإنما أعقب ذلك سلسلة من الانتكاسات الدستورية عبر دساتير موقتة، وانتهاء بدستور1973 المعدل بدستور 2012.
لقد شهدت دولة سورية سلسلة من الدساتير الموقتة والدائمة، منها دساتير صيغت على عجل؛ لمواجهة تحديات طارئة، ومنها دساتير صاغها الانتداب الفرنسي، وخضعت لتعديلات تحت الضغط الشعبي، ومنها دساتير صاغها الانقلابيون العسكريون؛ للتغطية على التفرد بالسلطة، وربما يمكن استثناء دستور 1950 نسبيًا الذي جاءت مواده محكمة دستوريًا من ناحية الفصل بين السلطات، والذي عطلته الانقلابات العسكرية المتلاحقة، ولم يُعتمد فعليًا إلا لمدة أربع سنوات، من عام 1954؛ وحتى عام 1958، ولفترات متقطعة بين 28 أيلول 1961، و8 آذار 1963.
ويمكن التأريخ للمسيرة الدستورية في سورية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ حيث انتهى “الاحتلال” العثماني، وشُكّلت أول حكومة وطنية في سورية في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1918، برئاسة علي رضا الركابي، حيث، وفي 8 آذار/ مارس 1920، أعلن المؤتمر السوري العام، دون التنسيق مع الحلفاء، استقلال (دولة سورية) وأُعلن قيام (المملكة السورية العربية)، وإعلان (فيصل الأول) ملكًا عليها. غير أن هذا الكيان لم يحظ بأي اعتراف دولي، وعلى الرغم من ذلك، فقد شكل المؤتمر السوري العام لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي، مهمتها صياغة دستور المملكة الوليدة، وبالفعل، جاء دستور 1920 باثني عشر فصلًا و147 مادة.
أهم ما جاء في دستور 1920: أن سورية (ملكية مدنية نيابيّة)، عاصمتها دمشق، وكفل الدستور المساواة بين جميع السوريين، وحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب، والمشاركة في النشاط السياسي والاقتصادي، وسلامة الأفراد، وتجريم التعذيب والاعتقال التعسفي، كما نص على الحريّة الدينيّة، ونشر المطبوعات، ومنع النفي والعقاب، دون محاكمة، وحدّ من صلاحيات الملك؛ بإلزام أي قرار يتخذه بتوقيع رئيس الوزراء والوزير المختص، وبيّن أن المؤتمر العام يتكوّن من غرفتين، هما مجلس النواب المنتخب من الشعب على درجتين، ومجلس الشيوخ المنتخب من مجلس النواب بمعدل ربع عدد أعضاء نواب المقاطعة الواحدة في مجلس النواب. أما المحكمة الدستورية العليا، فتتألف من 16 عضوًا، نصفهم منتخب من مجلس الشيوخ، والنصف الآخر من رؤساء محاكم التمييز، ونشر هذا الدستور في 13 تموز/ يوليو من العام ذاته، ولم يعمّر ذلك الدستور طويلًا؛ فقد طُبق لمدة 15 يومًا فقط، وفعليًا لم يُطبق كثير من مواده المتعلقة بغرفتي المؤتمر السوري العام، والمحكمة الدستورية العليا، واللامركزية الإدارية؛ بسبب تلاحق الأحداث التي بلغت ذروتها مع إنذار غورو، ثم احتلال الفرنسيين دمشق في 25 تموز/ يوليو 1920، ثم نفي الملك فيصل في 28 تموز/ يوليو 1920؛ حيث عطّل الاستعمار الفرنسي -الذي جاء باسم (انتداب)- العمل بدستور 1920، وقسّم البلاد في 1 أيلول/ سبتمبر: 1920 إلى دويلات على أسس مذهبيّة ومناطقيّة.
لم تتوقف -خلال هذه الفترة- المظاهرات والمطالبات بوحدة البلاد السوريّة واستقلالها، وانتخاب جمعية تأسيسيّة؛ لوضع دستور جديد للبلاد، فاستجاب المفوّض الفرنسي (هنري غورو)، وأعلن في 28 تموز /يوليو 1922 (القانون الأساسي للاتحاد السوري)، بمنزلة الدستور الاتحادي لمقاطعات دمشق وحلب واللاذقية، وفي 1 كانون الثاني /يناير 1925، حُل “الاتحاد السوري”، وأُعلنت الوحدة بين دولتي دمشق وحلب فحسب، في حين استمرّ فصل السويداء واللاذقية، ودُعيت تلك الوحدة بـ “الدولة السورية”، وأصدر المفوض الفرنسي الجديد، ماكسيم فيغان، قرارًا آخر عُدّ بمنزلة القانون الأساسي للدولة، نصّ على أن عاصمة الدولة دمشق، ولحلب الامتياز الإداري والمالي، كما أفرد للمفوض الفرنسي حق التصديق على مقررات رئيس الدولة والوزراء.
في 21 تموز/ يوليو 1925، اندلعت “الثورة السورية الكبرى”، واختُيرت قيادتها في السويداء، وكان على رأس مطالبها وحدة البلاد السورية، وانتخاب جمعية تأسيسيّة؛ لوضع دستور جديد، وأدت الثورة -أيضًا- لاستقالة صبحي بركات، وتعيين أحمد نامي رئيسًا للدولة السوريّة، وفي عهده قُمعت الثورة بالقوّة، واتُفق على ما عُرف باسم (الداماد – دي جوفنيل)، الذي نصّ على انتخاب جمعية تأسيسيّة؛ لتحقيق الوحدة السوريّة، وتحديد الانتداب عن طريق اتفاق صداقة، يقرّه مجلسا فرنسا وسورية التشريعيين، لمدة ثلاثين عامًا، غير أن الفرنسيين، وبعد قمع الثورة ، ماطلوا في الدعوة إلى تنفيذ الاتفاق، واستقال أحمد نامي احتجاجًا، وكُلّف تاج الدين الحسيني برئاسة الدولة.
في تلك الأجواء، جرت انتخابات جمعية تأسيسيّة في نيسان/ أبريل 1928، انتخبت هاشم الأتاسي رئيسًا لها بالإجماع، وفوزي الغزي وفتح الله آسيون نائبين للرئيس، وتكونت الجمعية التأسيسية من 68 عضوًا منتخبًا، يمثلون دولتي دمشق وحلب وحدهما، دون السويداء واللاذقية، ثم انتخبت الجمعية لجنة وضع الدستور برئاسة إبراهيم هنانو، حيث صُوّت عليه وأُقرّ، في 11 آب/ أغسطس 1928، وقد جاء الدستور متوازنًا في الفصل بين السلطات، وعدّ سورية “جمهورية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين رئيسها الإسلام”، وأن البلاد السوريّة المنفصلة عن الدولة العثمانية هي وحدة سياسيّة لا تتجزأ، ولا عبرة بكل تجزئة طرأت عليها بعد الحرب العالمية الأولى، كما ضمن الدستور استقلال القضاء وحرية المواطنين ومساواتهم أمام القانون وفي الدولة، وكفل الدستور حرية التعبير، وغيرها من الحريات العامة، كما نص على احترام حقوق الطوائف السورية، وكفل قوانين أحوالها الشخصية ومدارسها الخاصة، وقد وجهت له انتقادات بكونه إعادة استنساخ لنظام الملل العثماني؛ فقد نصّ -أيضًا- على تمثيل الأقليات الدينية والعرقية بشكل عادل في البرلمان وسائر مؤسسات الدولة، وهو ما مهد لكون قوانين الانتخابات السورية لحظت مقاعد لمختلف الطوائف والمكونات، في الانتخابات التي جرت في ظل هذا الدستور، وبعد أن أقرّت الجمعيّة التأسيسيّة الدستور المكون من 115 مادة، رفض “هنري بونسو” المفوض الفرنسي إصداره؛ بحجة مخالفته صك الانتداب وحقوق الدولة المنتدبة.
أصدر “بونسو” قرارًا بتعطيل الجمعية التأسيسيّة، وشهدت البلاد -في إثر ذلك- مظاهرات واضطرابات أمنية حتى 14 أيار/ مايو 1930، حين أقر (بونسو) الدستور بعد أن أضاف إليه المادة 116 التي تنصّ على “طي المواد التي تتعارض مع صك الانتداب؛ حتى زواله” لم يهدأ الشارع، وعُدّت المادة مقيدة لحقوق الدولة السوريّة ، ثم أُنهي حكم الشيخ تاج الدين الحسيني في 16 تشرين الثاني 1931، وتشكلت حكومة موقتة برئاسة سالومياك، نائب بونسو، في دمشق، مهمتها الإشراف على الانتخابات النيابية التي أُعلنت نتائجها الرسميّة في 9 نيسان/ أبريل 1932، وعُقد أول مجلس نيابي في ظل النظام الجمهوري في 7 حزيران/ يونيو 1932، وانتُخب صبحي بركات رئيسًا له، ومحمد علي العابد رئيسًا للجمهورية، وفي عام 1936، نُظمت الانتخابات النيابية الثانية في ظل الدستور، وأوصلت هاشم الأتاسي لسدّة الرئاسة، وفي عام 1939، استقال الأتاسي، وعُطّل العمل بالدستور؛ نتيجة نشوب الحرب العالمية الثانية؛ حتى 1941 حين أعيد العمل بالدستور. غير أنه لم تجر انتخابات، وعيّن تاج الدين الحسيني رئيسًا للجمهورية، ثم جرت الانتخابات عام 1943، وأفضت إلى فوز الكتلة الوطنية، ووصول شكري القوتلي إلى الرئاسة، وفي عام 1947، عُدّل الدستور بتحويل النظام الانتخابي من درجتين إلى درجة واحدة، وعدل مرة ثانية عام 1948 للسماح بانتخاب القوتلي لولاية ثانية مباشرة، بعد ولايته الأولى، وفي 30 آذار/ مارس 1949، انقلب حسني الزعيم عسكريًا على الحكم المدني برئاسة القوتلي، وعلّق العمل بالدستور، وسرعان ما انقلب عليه سامي الحناوي في آب/ أغسطس 1949، ونُظمت انتخابات جمعية تأسيسيّة؛ لوضع دستور جديد للبلاد.وفي اليوم الثاني لانقلاب سامي الحناوي كُلّف الرئيس الأسبق، هاشم الأتاسي، برئاسة الحكومة، والتي وضعت على رأس أولوياتها القيام بانتخابات الجمعية التأسيسيّة؛ لوضع الدستور الجديد للبلاد. وهكذا أُعِدّ لدستور 1950، فكيف كان ذلك؟
[sociallocker] [/sociallocker]