بريطانيا تفتح ملف «المحاكم الشرعية» … وشكاوى من «تمييز» ضد النساء
10 نوفمبر، 2016
لا تعترف بريطانيا بنظام تعدد الزيجات، لكنها تغض النظر عنه لأنه يمس معتقدات شريحة من مواطنيها المسلمين. ففي وقت لا يسمح القانون بتسجيل سوى زواج واحد في السجلات المدنية، فإنه يحق للمسلم الاقتران بأكثر من زوجة إذا ما كان هذا الزواج قد عُقد في شكل شرعي وفق قوانين بلد يسمح بتعدد الزوجات، وهذا ينطبق تحديداً على البلدان الإسلامية حول العالم. وتبدأ الإشكالية هنا. فبما أن القانون البريطاني يعترف بزوجة واحدة هي المسجّلة رسمياً، فإن الزوجات الأخريات لا شيء يحميهن قانوناً في حال الطلاق سوى اللجوء إلى محاكم شرعية إسلامية باتت منتشرة في أرجاء البلاد وتنظّم شؤون مجتمع المسلمين الذي بات يشكّل نحو 3 في المئة من عموم سكان الجزر البريطانية (أكثر من 60 مليوناً).
ويبت هذا «القضاء الموازي» للقضاء البريطاني في قضايا عدة تهم المسلمين، ولا يقتصر عمله على معاملات الطلاق. لكن هنا يقع محور الجدل الأساس الذي تشهده بريطانيا حالياً، في ظل شكاوى مستمرة من أن المحاكم الشرعية التي يهيّمن عليها قضاة رجال تُصدر أحكامها غالباً لمصلحة الرجال لا سيما في مسائل الحضانة والإرث، وحتى في حالة طلب المرأة حق الطلاق «في شكل متساوٍ» مع الحق المتاح للزوج وفق تعاليم الشريعة. وشكا منتقدون طويلاً عمل المحاكم الشرعية من أنها «لا تضمن المساواة» التي يكفلها القانون البريطاني بين الرجال والنساء وبالتالي بين الزوج والزوجة، وغالباً ما يعطون مثالاً على ذلك أن الزوج يمكنه تطليق زوجته بكلمة، بينما هي لا يحق لها أن تفعل الشيء عينه.
وقادت البارونة كارولاين كوكس حملة واسعة مطلع هذه السنة ضد المحاكم الشرعية التي يتجاوز عددها 30 محكمة (هناك تقديرات بأن أكثر من 80 «محكمة إسلامية» تعمل في بريطانيا). وقدّمت مشروع قانون أمام مجلسي العموم واللوردات باسم «قانون المساواة في خدمات التحكيم والوساطة»، بهدف منع هيئات دينية (مثل المحاكم الشرعية) من «التظاهر» بأنه يمكنها أن تتصرّف بوصفها «محكمة»، على رغم أن القانون البريطاني لا يعطيها هذا الحق. وينص أيضاً على «إرغامها» على «وقف التمييز الممنهج» ضد النساء.
وقالت البارونة كوكس عند طرح مشروعها إنه «ستكون أمام النواب البريطانيين فرصة لمساعدة النساء اللواتي يعانين (…). هناك أعداد لا تحصى من حالات التمييز (ضد النساء) المسموح بها دينياً والتي تعني أن يعاملن كمواطنات من الدرجة الثانية، وليس أكثر من أنهن ملكية أزواجهن». وبعدما جادلت بأن القانون المقترح «يحترم المبادئ الأساسية لحرية الدين والمعتقد»، قالت إنه «لا يمكننا أن نسمح بأحكام لا تتوافق مع قوانين هذا البلد ولا مع قيمه ومبادئه وسياساته».
وفي الواقع يتيح القانون البريطاني اللجوء إلى التحكيم وفق مبادئ الشريعة الإسلامية، ما يتيح للمحاكم الشرعية العمل في شكل شرعي على رغم عدم الاعتراف بها رسمياً بوصفها محكمة تحل مكان المحاكم البريطانية. لكن حملة البارونة كوكس ومؤيديها من معارضي عمل المحاكم الشرعية دفعت بالحكومة البريطانية إلى إجراء تحقيق معمّق في هذا الشأن لتحديد ما إذا كان يتوافق فعلاً مع قوانين هذا البلد. ويتم هذا الأمر حالياً في شكل متوازٍ، إذ تجري وزارة الداخلية مراجعة لعمل المحاكم الشرعية (بما في ذلك الطلاق وما يُعرف بـ «الزواج بالإكراه» والعنف الأسري)، في حين يعقد مجلس العموم (لجنة الشؤون الداخلية) جلسات استماع لخبراء بعضهم يدافع عن محاكم المسلمين وبعضهم يعارضها، على أمل الوصول إلى صيغة تلبّي حاجات الذين يتطلّعون إلى أحكام تتوافق مع الشريعة، وإن كان التحدّي هنا أنها إذا كانت كذلك فإنها قد لا تكون دائماً متوافقة مع القوانين البريطانية التي تسري على بقية المواطنين غير المسلمين.
وليس المسلمون وحدهم في الحقيقة هم من يلجأون في بريطانيا إلى محاكم «الظل» الدينية، فلدى اليهود أيضاً قضاؤهم الموازي ممثلاً بما يُعرف بمحاكم «بيث دين» (بيت الدين)، التي تعمل منذ أن سمح أوليفر كرومويل لأبناء هذه الطائفة بالعودة إلى بريطانيا بعد 4 قرون من طردهم منها، خلال حكم الملك إدوار الأول في عام 1290. ولا تثير المحاكم اليهودية الضجة المثارة حول المحاكم الشرعية الإسلامية حالياً، على رغم أنها تُعنى أيضاً بتفسير التعاليم الدينية وفق ما جاء في التوراة. وتنظر محاكم «بيث دين» في قضايا عدة شرط أن يكون طرفا النزاع يهوديين ويقبلان التقاضي أمامها، ويصبح حكمها في النزاع مُلزماً فور صدوره. وتنطلق شرعية هذه الإلزامية من أن القانون الإنكليزي يسمح باللجوء إلى «طرف ثالث» للتحاكم في نزاع بين طرفين، ما يعطي لهذا الطرف الثالث (المحكمة اليهودية) شرعية قانونية في أحكامه.
وتنظر محاكم «بيث دين» في مجالات عدة تتعلّق بشؤون اليهود وليس بالضرورة النزاعات بينهم، مثل تحديد المواقيت الدينية (أيام السبت)، وإصدار شهادات «الكوشر» (الذبح الحلال والخبز الحلال)، وتحديد المباح لليهود في مسائل علاج المرضى، وقبول منضمين إلى الدين اليهودي. لكن عمل «بيث دين» في مجال الطلاق والتشريع هو الذي يجعلها بمثابة قضاء موازٍ للقضاء البريطاني، تماماً كالمحاكم الشرعية الإسلامية.
ويُتوقع أن تُصدر وزارة الداخلية نتائج تحقيقها في عمل المحاكم الشرعية العام المقبل، في حين سيواصل البرلمان جلسات الاستماع إلى خبراء واختصاصيين في الشؤون الإسلامية من دون أن يتضح شكل التوصيات التي ستصدر عنه، وإن كان يرجّح أنه سيدعو إلى «إصلاح» في عمل هذه المحاكم.
وأيّدت حوالى مئة مسلمة في رسالة مفتوحة نشرتها قبل أيام رئيسة «شبكة النساء المسلمات في المملكة المتحدة» شايستا غوهير، إجراء إصلاحات في المحاكم الشرعية، مطالبة بإلغاء «كل تمييز ضد النساء في الزواج والطلاق». وورد في الرسالة أن «الاكتفاء بإلغاء المجالس الشرعية ليس حلاً»، مؤكّدة أن «إغلاقها سيؤدّي إلى انتقال خدمات الطلاق الإسلامية إلى السرية، ما سيعني شفافية أقل وتمييزاً أكبر».
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]