on
أبناء الساحل السوري بين التخلف عن الخدمة العسكرية والفرار
عارف محمود
ست سنواتٍ مضت على حربٍ طاحنة، لم تراع فيها الحقوق المدنية والسياسية والجغرافية للوطن السوري؛ حتى أمست الثورة حربًا مفتوحة على الجميع، ولا هوادة فيها، والخاسر الأكبر -دائمًا- كان الانسان السوري، بشريًا وحضاريًا وجغرافيًا، وكان ازدياد تدفق الميلشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانب النظام من أولى المؤشرات التي تدل على الخسارة الديمغرافية الكبيرة في فئة الذكور من المقاتلين في جيش النظام عامةً وفي الساحل السوري خاصة، حيث استطاع النظام، ومنذ انطلاق الثورة السورية أن يعبئ أبناء الساحل في حالةٍ غريزية غير مسؤولة تجاه الثورة، وأن ما يحدث هو حربٌ طائفية ضدهم من أجل السيطرة على امتيازات الطائفة.
السؤال هنا هل ما زالت نظرة أبناء الساحل السوري تجاه خدمة أجهزة النظام كما كانت قبل ست سنوات؟
التجييش الذي حصل في الساحل بداية الثورة السورية كان له التأثير الكبير على الوضع النفسي للشباب مما دفعهم للالتحاق بأعداد كبيرة ضمن فرق الجيش، وبحسب عامر العلي (وهو أحد الفارين من خدمة العلم) فقد لعب النظام دورًا كبيرًا في قضية الحقن الطائفي منذ أول مظاهرة خرجت في جبلة المدينة، والتي كانت بحسب قول “عامر” مظاهرة تنادي بالحرية والتأييد لدرعا ورُفعت فيها شعارات “سلمية سلمية” والتي وصلت من خلال عملاء النظام إلى قرى جبلة على أنها تهتف “سنية سنية” والذي حدا بشباب القرى أن يتهافتوا بالمئات؛ من أجل قمع هذه التظاهرات، وبعد تكرار حوادث عديدة، وازدياد حالات إطلاق النار العنيف ليلًا، بلا مبرر في أغلب مدن الساحل، وما تلاه من حصار لبانياس وارتكاب مجزرة “البيضا، بدأت تتوضح لدى بعض شباب قرى الساحل أن ما يجري على أرض الواقع مخالف لما يبثه النظام من إشاعات وادعاءات، وبحسب توصيف عامر أن كثيرًا من الشباب في -آنذاك- بات لديهم أمر القتال خيارًا لا عودة عنه، وكأنهم في حال رد انتقام مسبق قد يقع عليهم في المستقبل.
المراقب لحالة الفساد العام التي تدير عجلة المجتمع السوري برعاية النظام الاستبدادي سيدرك تمامًا أن هناك انفصال تام بين دور الجيش كمؤسسة وطنية ودوره في حماية النظام منذ ما قبل الثورة، وهذا بدوره كان له أكبر الأثر بالنسبة لعامر للفرار من خدمة العلم، والتي برأيه أصبحت محرقة لشباب الساحل السوري من أجل بقاء سلطة مستبدة غير آبهة بالبلاد والعباد.
كان لتدفق الميليشيات الطائفية على الأرض السورية، وبداية سيطرتها على القرار العسكري، بالغ الأثر في بعض جنود النظام، من حيث تغيير نظرتهم تجاه الاستمرار في الخدمة، وخاصة أن أولئك المرتزقة بدؤوا يتصرفون في الأرض السورية وكأنها مكانهم التاريخي والاستراتيجي. وعن ذلك يخبرنا (يزن. س)، وهو أحد المتطوعين الفارين من فرع الأمن السياسي في حمص، أنه بعد خبرته الطويلة في العمل مع النظام وقناعته المطلقة أن ما كان يجري على الأرض -بداية الثورة- لم يكن إلا عملية قمع ممنهج للثورة؛ فقد توصل إلى يقينٍ بأن النظام لم يكن مسؤولًا عن جنوده المرميين في محرقة بقائه واستمراره، وما إن بدأ قادة الحرس الثوري الإيراني بالسيطرة على سير المعارك؛ حتى بات مصير هؤلاء الجنود رهنًا بيد الإيراني الذي كان لا يولي سلامة جنود النظام أي اهتمام، والذي بدوره أظهر ضعف قيادة ضباط النظام في تسيير أمور الجنود على الأرض، وهو ما دفع عدد من الجنود إلى الاحتجاج، ولكن دون جدوى، والذي أدى بدوره إلى ضعف انتمائهم إلى المؤسسة العسكرية، والتي -بحسب يزن- “هي التي تخلت عنا، وتعدّنا أرقامًا رخيصة، تزيد من زخم المعركة وحسب”.
قد لا تبدو العوامل التي تدفع أبناء الساحل إلى تغيير نظرتهم تجاه مؤسسة النظام، وخدمتها نابعة من وازعهم الوطني، بقدرِ ما هي ردة فعل على سلوك الميليشيات الطائفية التي باتت تتحكم في سير المعارك، إضافة إلى سلوك ضباط النظام الذي أصبح استغلاليًا، أكثر من السابق، قائمًا على استغلال حاجة المجندين للإجازة التي تُبتاع مقابل نصف راتبهم، فضلًا عن سوء الخدمات التي تقدم لجندي النظام مقابل عناصر حزب الله اللبناني والميلشيات الطائفية الأخرى، ويخبرنا هاني. د، وهو عنصر من عناصر قوى الأمن الداخلي، أنه منذ الشهر الخامس في عام 2016 (وهو شهر السحب للجندية) رُفع أكثر من مئتين وخمسين مذكرة بحث واستدعاء بحق متخلفين من شعبة التجنيد في ريف جبلة.
لا يمكننا التعميم -مما سبق- على أن مؤسسة النظام باتت أقرب إلى التفكك بالمعنى الطائفي للكلمة، فعلى مدى أكثر من خمسةٍ وأربعين عامًا استطاع النظام أن يربط مصالح الطائفة العلوية بعجلة مؤسساته الأمنية والعسكرية؛ بحيث انعكس واقع هذه المؤسسات على طبيعة علاقاتهم الاجتماعية؛ ما جعل العمل في المؤسسات الأمنية والعسكرية طريقة حياة بالنسبة لمعظم أبناء الساحل السوري، ولكن ما شهدته سورية في السنتين الأخيرتين من ازدياد تدفق الميلشيات، وأخذ الدور الروسي وتيرة الاحتلال المباشر، أظهر مؤشرات لم تعد تخفى على أحد، بانكفاء كثير من أبناء الساحل عن الانخراط في أجهزة المؤسسات الأسدية، وبالنسبة للأكثرية التي ما زالت تخدمه، بدأت تتجلى لها أن حربها حرب غريزية، ولا تتعدى الموت في سبيل بقاء القائد الذي بات من وجهة نظر عدد من جنوده حديث السخرية اليومي، وعدم القناعة.
المصدر