on
أرض الهجرة.. نصف مليون إلى كندا سنوياً للاستقرار
تتطلّع كندا إلى استقبال 450 ألف مهاجر سنوياً في فترة قريبة. حالياً، أكثر من خُمس سكان البلاد ولد خارجها. وبخلاف التوجس في أميركا المجاورة خصوصاً بعد انتخاب دونالد ترامب، تزداد النظرة المتفائلة إلى الآتي من وراء البحار.
لا تستغرق رحلة القطار بين تورونتو ومونتريال أكثر من خمس ساعات. خلالها، يمكن الاسترخاء في جو أشبه بالرحلات الجوية والتمتع بوجبة غداء لذيذة وتصفّح الإنترنت المجاني مع متابعة الأشجار المنتشرة على جانبي سكّة حديد تمتد 500 كيلومتر.
على مائدة أحد المطاعم المعروفة المشهور باللحم المدخّن في قلب المدينة الفرانكوفونية، تتحدّث مها بشغف عن تلك الرحلة التي قضتها مع عائلتها الصغيرة كجزء من نشاط استكشافي لكندا. هو الشغف نفسه الذي تشعر به تجاه هذا البلد الذي اختارته أرضاً للاستقرار. تقول: “احترنا كثيراً في بحثنا عن مكان الاستقرار بعد سنوات طويلة من الأسفار”. تضيف: “انتقل عمل زوجي إلى الولايات المتحدة، وابنتي أساساً ولدت هناك، لكن تبدو لنا كندا الخيار الأنسب لناحية غناها الاجتماعي واستقرارها ورحابة صدرها، من أجل مستقبل هذه العائلة”.
الاستقرار عادةً لا يخلو من التضحية، وفي هذه الحالة يتمثّل في السفر الأسبوعي لرب الأسرة على خطّ تورونتو – واشنطن. وبالفعل، بمجرّد الانتهاء من الوجبة والحديث الأنيس الذي رافقه، اتجه هو إلى المطار والعائلة إلى إقامتها السياحية تحضيراً للعودة إلى المقاطعة الأخرى.
تُظهر تجربة هذه العائلة الصغيرة، اللبنانية الأصل، أنّ روح المدن الكندية تعوّض الكثير على المهاجر الجديد، مقارنة بباقي وجهات العالم الغربي التي تُعدّ قبلة الشباب والعائلات. ولهذا السبب تحديداً، كان لإعلان الحكومة الكندية أخيراً عن نواياها استقبال 300 ألف مهاجر خلال عام 2017، وقعٌ خاص عالمياً، خصوصاً في مجال تقييم قابلية المجتمعات الغربية لاستقبال المهاجرين وصياغة السياسات العامة التي تؤمّن ذلك. بل إنّ البعض يتندّر أنّ كندا ستستقبل مهاجرين أميركيين بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أن موقع شؤون الهجرة والجنسية الكندية كان قد تعطّل عن العمل بالتزامن مع يوم الإنتخابات الأميركية الثلاثاء الماضي بسبب الضغط المرتفع عليه.
هجرة لدواع إنسانية
بدايةً يؤكّد هذا الإعلان دور كندا على مستوى الهجرة الدولية. فحالياً، تبلغ نسبة المقيمين في كندا والذين ولدوا خارج أراضيها 20 في المائة تقريباً، وهي الأعلى في العالم، مع العلم أن المعدل العالمي على هذا الصعيد هو 3 في المائة. وهو ثابت تقريباً منذ ستينيات القرن الماضي.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من كلّ الاضطرابات التي يشهدها العالم حالياً على مستوى سياسات الهجرة وما يرافق ذلك من تصاعد المشاعر السلبية في المجتمعات الغربية – التي تتفاوت بين الخوف والبغض الجاهل – تبدو كندا صامدةً رسمياً في أهدافها الخاصة باستقبال الوافدين. أما على المستوى الاجتماعي لا يبدو أنّ للأفكار اليمينية التي تغزو بعض مراكز العالم الغربي أي تأثير عليها. ويعود الفضل في ذلك إلى نهج الانفتاح الذي اعتمدته الحكومة الليبرالية بقيادة الزعيم الشاب جاستين ترودو، وتعزيز السياسات الداعمة لاستقبال المهاجرين.
وقد أعلن وزير شؤون الهجرة واللجوء والمواطنة، في تلك الحكومة، جون ماكولوم، أنّ الهدف السنوي لاستقبال المهاجرين بين عامي 2011 و2015 كان 260 ألف مهاجر، وقد ارتفع الرقم إلى 300 ألف في العام الماضي، نظراً لـ”ظروف استثنائية” خاصة بحالات الصراع التي تعيشها بلدان التأزّم، في المنطقة العربية تحديداً، خصوصاً سورية التي جعلت الحكومة الكندية استقبال اللاجئين منها إحدى أولوياتها.
وكان مجلس الاستشارات الاقتصادية التابع للحكومة الكندية قد أوصى برفع الهدف إلى 450 ألف مهاجر خلال السنوات الخمس المقبلة، غير أنّ الوزير آثر الحفاظ على واقعية معينة “مع إمكان تحقيق هذا الهدف في وقت ما مستقبلاً”. هذا يعني أنه خلال فترة معقولة يُمكن أن تبدأ كندا باستقبال نحو نصف مليون مهاجر سنوياً.
تنقسم الهجرة إلى كندا إلى فئات بحسب دراسة ملفات منح تأشيرات الدخول ومن ثم الإقامة وفي نهاية المطاف الجنسية. وقد رفعت الحكومة هدفها للهجرة الاقتصادية – التي تشمل المهنيين ورجال الأعمال – إلى 172 ألفاً و500 مهاجر، لتمثّل هذه الفئة نحو 60 في المائة من إجمالي الهجرة إلى كندا. كما رفعت الهدف الخاص بهجرة العائلات (أي في فئة لمّ الشمل) إلى 84 ألفاً. وهكذا تُصبح حصة فئة “اللجوء” 13.3 في المائة، والباقي عبارة عن حالات “هجرة لدواعٍ إنسانية”.
رقم قياسي
يقول مالكولم في إعلانه: “أؤمن فعلاً بصوابية السعي إلى جذب مزيد من المهاجرين إلى كندا وبكون ذلك سياسة جيدة… واليوم وضعنا الأسس للنمو في المستقبل”.
من اللافت أن تستهدف خطة الحكومة الكندية الشباب المتعلم والطلاب أيضاً. فبعد سنوات من تضييق الحكومة المحافظة الخناق على إجراءات الإقامة للطلاب الأجانب تمهيداً لمنحهم إقامات دائمة وبالتالي الجنسية، تطرح الحكومة الجديدة تسوية ملائمة تشجع العائلات على إرسال أولادها لكسب العلم بكلفة تُعدّ مقبولة نسبياً وتفتح آفاق الاستقرار والازدهار في العقود اللاحقة.
فعلياً، تحقق كندا ما يفشل العديد من المجتمعات الغربية في التوافق عليه. في المبدأ، تخالف المعطيات هنا تلك السائدة في العالم الغربي. فكندا، بخلاف أوروبا، بعيدة عن بؤر النزاعات. كذلك، لا يسيطر هاجس الهجرة غير الشرعية على حيز كبير من نقاش السياسة العامة كما يحصل في الولايات المتحدة، وبالتالي ينصب الاهتمام على كيفية مواءمة الهجرة مع المتطلبات الاقتصادية والديموغرافية للبلاد.
مثلاً، مع تصاعد مشاعر الكره للمسلمين في الولايات المتّحدة نتيجة خطاب تحريضي روّج له ترامب وفريقه خلال الحملة الرئاسية، عبّر 80 في المائة من أبناء المجتمع الكندي عن قلقهم من نجاحه، وعدّوا وصوله إلى البيت الأبيض “سيئاً” بحسب مسح وطني أجرته مؤسسة “إنسايد ويست”.
هكذا، وفيما تنازع الولايات المتّحدة مع تياراتها اليمينية استقبلت كندا خلال فترة العام المنتهية في يونيو/ حزيران الماضي، أكثر من 320 ألف مهاجر، ما يُعادل 1 في المائة من عدد سكانها، وهو رقم قياسي. والبلاد اليوم هي محط أنظار المراقبين على الساحة العالمية إلى درجة أنّ بعض دوائر الأبحاث تُصنّفها آخر معاقل الليبرالية الاجتماعية في الغرب.
عموماً، أثبت المجتمع الكندي مرونة ووعياً استثنائيين على هذا الصعيد، ويظهر ذلك في مسح شامل يتطرق إلى مسألة الهجرة، أجراه معهد “إنفيرونيكس” أخيراً، وخلص إلى أنّ 8 من أصل 10 كنديين يرون في الهجرة عاملاً جيداً على المستوى الاقتصادي. حتى النظرة إلى طالبي اللجوء أضحت أكثر تسامحاً، إذ إنّ نسبة الذين يرون غشاً في قضايا اللاجئين انخفضت من 79 في المائة في نهاية الثمانينيات إلى 39 في المائة فقط حالياً.
وتعود هذه المشاعر الإيجابية التي يعكسها هذا المسح إلى ارتياح سكان البلاد لإدارتها أمنياً. فقرابة الثلثين يؤمنون أنّ البلاد تقوم بعمل جيد على مستوى حماية المجتمع من المجرمين وأصحاب السوابق، وإبقائهم خارج البلاد. هكذا يُصبح التركيز على مدى قدرة الآتين على الاندماج والاستقرار.
ومن اللافت أنه في معرض تقييم “المواطن الجيد” أضحى المجتمع الكندي يُركّز أكثر على جوهر الفرد ودوره في المجتمع وأقل على أصوله وربما ثقافته الأساسية. مثلاً، تتقدّم معطيات مثل “المساواة بين الرجل والمرأة” و”احترام القوانين الكندية” و”التسامح مع الآخر المختلف” على عامل “التشارك بقيم واحدة مع الآخرين في المجتمع”.
كذلك، يُعدّ “احترام القانون” و”الانخراط الفاعل في المجتمع” و”مساعدة الآخرين” عوامل أهم من “تبنّي القِيم والمعتقدات الكندية”. ولهذا المعطى دلالات هامة على مدى التسامح وتقبل الآخر في مجتمع متنوع ثقافياً ودينياً.
جميع هذه المعطيات تؤمّن قواعد أساسية لبناء سياسات هجرة مستدامة على الرغم من أنّ السنوات الأخيرة شكّلت ردّةً محافِظة على مستوى الحكومة الفدرالية، وأيضاً على صعيد الحكومات المحلية أشعلت في بعض الأحيان مشاعر وطنية معادية لـ”الغريب” وكادت تُهشّم نموذج التعايش الغني في هذه البلاد.
هكذا تُصنَّف كندا، كما خلص البنك الدولي في ورقة بحثية نشرها أخيراً، بين أربعة بلدان رائدة عالمياً في اجتذاب المواهب وأصحاب الخبرات المهنية. أما البلدان الأخرى فهي الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة.
مع ذلك، تُشكل فرادة المجتمع الكندي في أميركا الشمالية وفي العالم الغربي عموماً، محط انتقاد وتأفّف من التيارات اليمينية والحمائية، ومن بينها تصريحاتٌ انتقادية لترامب بحق الجار الشمالي ونموذجه “الاشتراكي”.
مسار القانون الجديد
تطلق وزارة الهجرة الكندية توقعاتها والتزاماتها للسنوات المقبلة، بالتزامن مع ورشة برلمانية أطلقها الحزب الليبرالي منذ وصوله إلى الحكم في نهاية عام 2015، وذلك عبر مشروع قانون مخصص لعكس مفاعيل إجراءات كانت قد فرضتها الحكومة المحافظة – تحديداً عبر إبطال أداة تجريد الجنسية على أسس محاربة الإرهاب، وعبر تقليص فترة المكوث المطلوبة على الأراضي الكندية إلى ثلاث سنوات – وذلك تحت عنوان “لا مواطنين كنديين من الدرجة الثانية” أو بحسب تعبير رئيس الحكومة جاستين ترودو: “الكندي هو كندي هو كندي”.
وبعدما أقرّ مجلس النواب الكندي المشروع يُناقش حالياً في مجلس الشيوخ، لكن من وجهات نظر أخرى، فالفترة نفسها شهدت قضية وزيرة شؤون التنوع الثقافي مريم منصف التي نُشر تحقيق صحافي عنها يكشف خطأً في أوراقها الأساسية يُفيد أنّها مولودة في أفغانستان، فيما الصحيح أنّ ولادتها كانت في إيران، وهو ما يُجيز على نحو غريب للسلطات سحب جنسيتها.
لكنّ النقاش يفتح الباب على مجالات أخرى من البحث، أبرزها الغش في عرض الوثائق والتصريح عن فترات السفر والمكوث داخل البلاد. مثلاً، أثيرت في مجلس الشيوخ أخيراً قضية حرب يوليو/ تموز 2006 (العدوان الصهيوني على لبنان طوال 33 يوماً) حين استجابت السلطات الكندية لطلب “إنقاذ” 15 ألف لبناني مزدوجي الجنسية لنقلهم من الأراضي اللبنانية إلى كندا تحديداً عبر البحر. وتمّ ذلك بكلفة لوجستية تتضمّن إجراءات إغاثة وتدبير متطلبات استقرار لدى الوصول إلى كندا بلغت تكلفتها 100 مليون دولار تقريباً، وهي فئة المهاجرين التي أُطلقت عليها تسمية “أصحاب الجنسية وقت الشدّة”. هذه الواقعة معطوفة على حادثة اكتشاف آلاف الحالات من الغش في أوراق الإقامة عبر أحد المحامين، لعبت دوراً كبيراً في تشديد الخناق على طالبي الهجرة.
صدى الشام