on
“داعشية” الأزمنة المقبلة!
جبر الشوفي
ما زلنا نبحث عن الركائز الفكرية لـ “الأيديولوجيا الداعشية”، في بطون الكتب الفقهية القائمة، بحسبان أنّ صلاحية الفكر وصحته المطلقة من الوجهة الشرعية، قد وضعت في زمن السلف الصالح سقفًا نهائيًا للتفكير، أو بوصفه يُمثّل جبروت العقل الكلي، حيث يقتصر دور العقل الفقهي الجزئي التابع على الشرح والتعليل لأحكام الشريعة، وتفسير مغازيها السامية، وبذا يغدو كل اجتهاد أو تجديد في ذلك، لابدّ من أن ينطلق منها، وإليها يعود، وتغدو الحرية الفكرية تجاوزًا ومروقًا عن الدين وكفرًا به.
من هذا الفهم ضيق الأفق، جاء تكفير الفلاسفة والمتكلمين والمذاهب بعضها بعضًا، قديمًا وحديثًا، ومنه تأسست، وانطلقت أحكام صارمة، سيرت عقول العامة، وسارت على ألسنتهم “حقائق” كونية إلهية مطلقة، ومن ثم؛ تنامت وتصاعد دورها سابقًا ولاحقًا، عبر التحالف المستمر بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية، في عملية تبادل للمنافع والمصالح بينهما، أما في حال تعارض رؤيتيهما لتشكل خطورة على السلطة السياسية؛ فتلجأ السلطات المستبدة عادة، إضافة إلى أساليب القمع التقليدية بإحضار مشرعين ورجال إفتاء، تسوّغ رؤية الحاكم؛ ليعمل الطرفان: السياسي والفقهي، كلّ في مجاله، بتناغم على تسييد الفكر المؤسسي الرسمي، ودفعه للانتشار شعبويًا بالترغيب والترهيب، وهكذا يسود الفقه السلطاني عبر فقهاء ومشرعين يحققون المقولة المعروفة: “الناس على دين ملوكهم”.
في هذا السياق الفقهي الضاغط، جاءت محاكمة المتصوفة وغيرهم، وحوكم بعض رواد النهضة والفكر التنويري في مصر، من أمثال علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، وطه حسين عن كتابه في الشعر الجاهلي، وفي بيروت صادق جلال العظم، عن كتابه (نقد الفكر الديني)، وحكم -في ما بعد- على :نصر حامد أبو زيد” بالفصل بينه وبين زوجته؛ ليموت منفيًا عن مصر، بينما جاءت الاغتيالات التي طالت فرج فودة على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، وحسين مروة ومهدي عامل على يد التطرف الشيعي في لبنان، ليشير إلى تغوّل الفكر السلفي الظلامي وانتقاله إلى العمل منفصلًا عن مؤسسة السلطة السياسية والقانونية، لا ليصبح حاكمًا، يقتصّ مباشرة ممن يعدهم مارقين وخارجين عن العقل الكلي السائد شعبويًا فحسب، بل إلى التجاوز على دور الدولة، بوصفها مؤسسة حاكمة ومسؤولة أيضًا؛ ما يشكل الخطوة الأساسية لإطلاق يد الإرهاب، وجعله سلطة خلفية موازية ومواجهة لسلطة الدولة والمجتمع في آن واحد، وعبر العمل على إلغاء مؤسسة الدولة، والنكوص بها نحو الرعوية البدائية، ومن ثمّ إعادة تنظيمها وضبطها وفق مبدأ الغلبة وقوة السلاح القاهرة، وهذا شيء مما ساد عندنا في سورية ما بعد 2012، على يد كتائب جهادية متطرفة، وأخرى شبيهة، قد تختلف بدرجة العنف، ولكنها لا تختلف على الوسيلة، ولا على العقل المشرّع أو النتيجة المرجوة منه.
مؤكد أنّ هذا الوعي البدائي المستبد، الذي لم يستطع أن يقضي على الفكر التنويري الريادي تمامًا، لكنه حجّمه وحصر تأثيره في أوساط النخب الليبرالية، في ظلّ غياب الدور التنويري الديمقراطي المفترض لمؤسسات الثقافة والتعليم الرسمي والجامعي العربي، ذلك التعليم الذي اعتمدت له السلطات (التقدمية) نهجًا وسطيًا محافظًا ومراوغًا، يتماشى مع الركود السياسي والثقافي المطلوبين، فجاءت الإشارة إلى بعض مضامينه التحررية، مقتضبة وعامة، ولا تتوازى قط مع ما أعطي للفكر السلفي الديني المتعايش مع سلطتها بصورته التقليدية السائدة.
لقد أُفشل مشروع الحداثة والتنوير الذي بدأه رفاعة الطهطاوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مرة بعد مرة، وقُتل رواده، أو تعرضوا للنفي والسجن وحصار السلطات، وما زال فكرًا مستقلًا عائمًا، ولم يحظ برعاية المؤسسات الرسمية، ولم يستطع أن يتجاوز نخبويته، أو أن يتطور؛ ليكون مشروعًا للتنوير المؤسسي المنهجي، وظلّ صمت الوسط الثقافي وخوفه وتملصه من مسؤولية التصدي للفكر الظلامي، إن لم نقل ممالأته والتلظّي به سائدًا؛ ما ترك حركة التنوير والفكر الحداثي عامة، بلا حاضنة شعبية تحميه وتقويه في ظلّ ضعف وهشاشة المشتركات الوطنية، الموطدة للبنية التحتية في السياسة والقانون والأخلاق، وتركها للفوضى والعشوائية، ولتأثيرات المؤسسات الدينية التقليدية، وتحالفها المشبوه مع السلطات السياسية المستبدة في مراحلها المختلفة!
وأمام توجهنا لفهم ظاهرة التطرف والتحذير من أخطاره، سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا، يجدر بنا أن نرى أنّ هذا الفكر الظلامي الضلالي، ليس سوى نسخة هذا العصر المعدلة والمسلحة بأسلحة عصرية، وهي تتجاوز ظاهرة داعش وأمثالها، وصولًا إلى الفكر السياسي الأيديولوجي المهيمن، الذي يستلب عقول العامة، ليس في الوسط السني وحده، بل في كل الطوائف والمذاهب بشكل أو بآخر، وبالاستفادة الهائلة من ثورة المعلومات والاتصالات، التي مكنت الفرد الواحد من الوصول إلى الملايين؛ ليؤثر في أساليب تفكيرهم أو يجندهم، بالنفاذ إلى هشاشة وخواء البنية النفسية الانفصامية لإنساننا الحالي المتأرجح بين متطلبات الحداثة ووسائلها، من جهة، وشعوره بالغربة عنها وعن قيمها الليبرالية (المعولمة) التي توهمت أنها نهاية التاريخ، والمنتصر النهائي فيه، فـ “الداعشية” -إذن- تطول البنية التقليدية العقائدية الراكدة عند الجميع، وترتبط بمفهوم الفرقة الناجية، في زمن يندفع فيه الصراع على تحديد الهوية المحلية، بديلًا من الهوية الوطنية الجامعة في اتجاهات عنفية خطرة، ولكن درجة الخطورة في الحالتين: الداعشية السنية والشيعية، تكمن في أنّ “داعشيتهم” أيديولوجية دعوية، فكلتاهما تعبر من العقيدة إلى السياسة، ومن السياسة إلى العقيدة، بينما تقتصر داعشيات الطوائف الأخرى على انغلاقها المذهبي (الغيتو)، فهي لا تقبل في عقيدتها سوى من جمعتهم رابطة الدم؛ حتى حينما لا يشكل الإيمان بالعقيدة الدينية المشتركة جوهرها، بل الانتماء القبلي إلى الجماعة!
الأهم والأجدر، لا يكمن في إنهاء القوة الداعشية وإزالة خطرها وحلمها بدولة أممية عبارة للأوطان والقوميات والقارات فحسب، بل في إتمام عملية التصدي للأصولية التي باتت تحصر المعركة -اليوم- بين متطرفين، وأقلّ تطرفًا، في ظلّ غياب القوى الليبرالية الديمقراطية وميوعتها، وتحميل الوعي السياسي والثقافي المراوغين المسؤولية، وتحفيزهما للتصدي لـ “الداعشية” الاجتماعية والفكرية، غير الجهادية أيضًا، وذلك لتجريدها من إمكانية تطويع النص المقدس لعمليات عارية من أي قداسة، كما يجب العمل الجاد على تقوية نسيج المشتركات الوطنية الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، على حساب الخصوصيات المذهبية المتصلبة الصادة لكل تغيير ثقافي وسياسي!
المصدر