هل انهزم سبارتاكوس الثورة


مضر الدبس

“قبِّلوا زوجاتكم؛ فإني تركت زوجتي بلا وداع، وعلى ذراعها تركت طفلي بلا ذراع”، هكذا تكلم سبارتاكوس الثائر بعد أن انهزم؛ وللسوري اليوم أن يتساءل: هل فشلت الثورة وانتهت؟ هل ماتت إرادة الشعب قبل أن يستجيب القدر؟ هل ارتطم الحلم الجميل والطموح السامي الكبير بالهمجية والسوقية؟ هل تسممت الكرامة بثمار الشجرة ذات الجذر المريض؟ هل انتصر الطغاة والهمج؟ ألا يدلّ تصدّر مصطلحات مثل النصرة و”جفش” وجيش الإسلام.. إلخ على أن الثورة فشلت وحادت عن الطريق؟ ألم يتصدر المسيح؛ لأن سبارتاكوس انهزم؟ ألم تتقارب المسافة بين الواقع وقصة نيرون في حلب وحمص وداريا وأغلب المدن السورية؟ ندفن نحن السوريون كثيرًا من الأسئلة المشابهة تحت أنقاض بيوتنا، وبين ثنايا قلوبنا المحطمة، ندفنها كل يومٍ خمس مراتٍ؛ لئلا تنبعث منها رائحة الإمكان، مازلنا نمارس عادتنا العلنية في التلصص على معدل الرجولة بين امرأتين تمارسان بغاءً مثليًا في محفلٍ دولي. ما أحوج السوريين إلى إعادة ترتيب الإدراك والوعي؛ من أجل معرفة ما يحدث في المسافة التي تفصل بين الطموح والخيال. كمن يتدثر بالغربال ويفيء إلى خياله: بعد مليون صدمةٍ واقعية تعلمنا مليون فكرةٍ من دخان. ولكن الحقيقة مازالت هي الحقيقة: ليس الوهم فعلًا ثوريًا لصناعة المستحيل. لهم أن يقولوا: إن زينب لن تسبى مرتين، ولك أن تخبرهم أن سبارتاكوس لن يهزم مرتين، ولكن كلاكما لا يدرك أن التاريخ عندما يرجح كفة على أخرى، لا يأخذ عدد الهزائم في الحسبان. فالوقع أصدق أنباءً من الأسطورة… لنا أن نفهم أنين يومنا انكسارًا وهزيمة، ولنا أن نفهمه عزيمة: عزيمة وليدة العذابات وطلب الحق، وهذه ليس من بعدها عزيمة؛ ولكنها من دون العقلانية تتحول إلى عزيمة للانتحار المجاني. كل شيء في سورية يئِنُّ: الرضيع، والعجوز، والجريح، والسجين، والسجّان، والحب، والحنين، والكاهن، والماجن، وقوت اليوم، والغرباء، والعسكر، والبندقية، والشجر، والحيوان، والغيم، والمطر، والنهر…، كل الكلمات تئنّ من جملٍ كوّنتها، والصامتون -أيضًا- من صمتهم يئنون. كل السوريين من خوفهم على غدٍ يشبه آنهم يئنون. ولكن ليس للخوف من دون العقل إلا أن ينهل من الغريزة؛ فيغذي الصراع الحيواني على الطعام والجنس المنفلت والبقاء. لم يبقَ من الوقت متَّسعٌ للتسكع بين جدران الخيال؛ فلنأخذ من الحقيقة ما يكفي ليكون زادنا ونمضي بهدوءٍ إلى هدفنا الأول. ولكي نشبع جوع الوهم والخيال علينا أن نواجه كثيرًا من الحقائق، وعلينا أن نربي الحكمة وما ملكت إيماننا من سلوك الأحرار؛ فهذا هو فعل الثوار. للسماء شريعتها، وللأرض خطيئتها، وللثورة أن تكون الاثنين. لها أن تنقم وترحم، أن تمل منا وتسأم، أن تعلمنا من حكمة الحياة ما لم نعلم، وكان أكثر الناس منَّا لا يعلمون. الثورة حرية يعذبها الزمن، خيلاء يهيم بها السر في العلن. للثورة مفرداتها، ونزواتها، وعنفها المنفلت؛ لها ضروبها وحروبها، لكن علياءها يجب أن يبقى أعلى في المحن. في الثورة عبرٌ تقول: ما ألين صخرة المستحيل عندما ينساب عليها ماء الثورة فينبت بين شقوقها عشبٌ فوضوي في غفلة من الإله بَعِل. وما أنبله صوت النحيب المعجون بالغضب، نارًا لا يوقدها حطب، ولادة من دون أمٍ، لكن كل السوريات للوليد أمهات. وفي المخيمات المنتشرة في أصقاع الأرض كافة، يرتد صدى النحيب ذكرى وتجديدًا واستمرارًا: سورية لنا وليست لأحدٍ غيرنا. الحياة صناعة، فنٌ يتقن، حرفة تحترف. يضيع فيها من يعاند التغيير وتعلم الجديد، ولا يصنعها إلا من يتقن المراكمة وشد أوتار الخبرة بالطريقة التي توائم المقام… سبارتاكوس أراد صناعة الحرية وانهزم، ولكننا أردنا الحرية؛ لكي تلد لنا وطنًا يشبهها، ويشبه كل المواطنين فيه. وككل الأمهات ستغفر الحرية لأبنائها آلام المخاض.




المصدر