قهوة الصباح بطعم مر!


سمير سعيفان

ماذا لو استيقظ صديقي محمد الذي يعيش في قريته شبه النائية صباح هذا اليوم؛ ليجد الانترنت وقد انقطع، ولم يعد ثمة فيسبوك أو تويتر أو غيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي التي ادمنها أخيرًا، وأن الهاتف المحمول قد مات، فلا حرارة فيه؛ لأن شبكة شركات الهاتف المحمول لم تعد تعمل، وأن التلفزيون -بدوره- قد أصبح صندوقًا لا قيمة له؛ لأن أي بث تلفزيوني قد انقطع، وحتى الراديو قد صمت؟!

وماذا لو كان هذا أكثر من انقطاع موقت، بل انقطاع دائم، لأنّ ثمة خلل أصاب مجالات نقل موجات بث الهاتف المحمول والتلفزيون والراديو والرادار وغيرها، وأن أي نوع من الموجات لم يعد بالإمكان نقله عبر الغلاف الأرضي، وماذا لو كان هذا يلف العالم بأسره؟

هل يمكن أن نتصور ما الذي يحدث في حياة صديقي محمد الذي اعتاد أن يجد في هذه الوسائل كافة نافذة على العالم، وتواصلًا مع الأصدقاء، ومطالعة الصحف وسماع الأخبار وامتلاك مجلته الخاصة (صفحته على “الفيسبوك”)؟

وكم ستحزن وداد؛ لأنها لن تستطيع ممارسة هوايتها في الاتصال بزوجها في كل لحظة؛ للحديث معه في شؤون العائلة، وكم سيسبب من الحزن لجيل الشباب، إناثًا وذكورًا، فقدان ساحة كبيرة للتواصل والتعارف، أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول، مخترقة حصار العادات والتقاليد القديمة، وكم سيصاب مدمنو الفسيبوك بالاكتئاب!

الأمر نفسه سيحدث لصديقي، عاطف، المقيم في دبي، فبطاقة الائتمان لم تعد تعمل، ولم يعد قادرًا على التسوق عبر الانترنت، وحجز بطاقات السفر، وهو في بيته، وعليه أن يعود إلى حمل النقود، والذهاب إلى المتاجر كي يتسوق.

لن يستطيع أي من أصدقائي التواصل في كل لحظة -بالصوت والصورة- مع عائلاتهم وأصدقائهم في المدينة، او عبر مدن العالم؛ للاطمئنان أو للاستعلام، وعليهم الانتظار والانتقال بما يستغرقه هذا من وقت وتكاليف.

لن يستطيع صديقي، إبراهيم، المقيم في شارع فرعي، والذي اعتاد طلب سيارة أجرة بالهاتف المحمول أن يحصل على هذه الخدمة بعد، وعليه أن ينزل إلى الشارع؛ بحثًا عن سيارة أجرة، ولن تعود شركات سيارات الخدمة قادرة على ارسال الطلبات الجديدة إلى السائقين حيث هم، بل على كل سائق العودة الى المكتب؛ لتلقي الطلبات الجديدة.

لن يستطع قريبي، نوار، قيادة سيارته في شوارع وبلدان ومدن أوروبا التي لا يعرفها، باستعمال “الجي بي إس” الذي هو أشبه بملاك يضع خريطة السير بين يديه، ويوجه سيره، خطوة خطوة، بأي لغة يرغب.

كم ستصبح حياتنا نحن -السوريين- أكثر قسوة، وهي قاسية كفاية الآن، إن فقدنا الإنترنت و”السكايب” و”الفيسبوك” والهاتف المحمول، سواء أكنا نقيم في مناطق المعارضة أم مناطق الموالاة، أم في مخيمات اللجوء، وقد تشردت أسرهم في أصقاع الأرض!

صديقي نبيل، المقيم في دمشق، الذي يُعِدّ بحوثًا اقتصادية، سيفقد المصدر الرئيس -اليوم- وهو الإنترنت، وقد اعتاد أن يدخل إلى مواقع كثيرة، من مراكز دراسات، ومكاتب إحصاء ومكتبات؛ ليحصل على مصادر البحث المتوافرة بكثرة إلى حد الإغراق، ولن يتمكن -بعد ذلك- من أن يحصل؛ حتى على أي معلومة، ولو صغيرة، مثل تاريخ وفاة ستالين، أو ميلاد آرثر كنغ، أو أن يستمع إلى أغنية “جاك بريل” التي يحبها (لا تتركيني)، ولن يستطيع قراءة الجرائد عبر الانترنت، ولن تأتيه الأخبار عبر تطبيق “نبض” الذي يشترك فيه.

المستشفيات ستفقد كثيرًا من كفاءتها، وسيفقد الأطباء القدرة على الاطلاع على آخر أخبار التطور في الطب والأمراض، وفي أجهزة العلاج والأدوية. والطب سيتغير، وكذلك التعليم، وسيتوقف تطورهما، بل سيعودان إلى الوراء.

شركات الطيران ستتوقف عن الطيران؛ لأنه لا يمكنها الطيران بدون التواصل مع أبراج المراقبة الأرضية لحظة بلحظة، وأن تتواصل في ما بينها، معتمدة على أنظمة إلكترونية، خاصة في الطيران، تستعمل موجات الغلاف الجوي، وسيُحرم الناس من الانتقال السريع السهل.

قواعد المعلومات والخدمات المرتبطة بها كافة ستتغير، خدمات الحكومة ستعود إلى الأساليب الورقية القديمة، والشركات التي تتواصل وتُدار -بكفاءة- عبر مواقعها في المدينة، أو عبر العالم، ستفقد هذه الميزة، وستعود إلى مناهج الإدارة القديمة، ولن تعود الشركات الكبرى قادرة على أن تضع قسم التصميم في باريس، وقسم التصنيع في الصين، وقسم المحاسبة في الهند، وقسم التوزيع في دبي، وعليها العودة إلى التجمع في مكان واحد، واستعمال مناهج العمل القديمة، ولن تستطيع شبكة “الهايبرماركت” (كارفور)، المنتشرة في أصقاع الأرض، وتزود محلاتها بسلع من أنحاء العالم، أن تنظم طلباتها للسلع التي تتعامل بها، والتي تبلغ الآلاف، وأن تُنتَج في بلدان متعددة، وأن تُشحن في الوقت نفسه؛ لتصل في الوقت الملائم إلى مراكزها التي تبلغ ربما الآلاف عبر عشرات من بلدان العالم.

وكم سيؤثر هذا على الإنتاجية، وكم سيرفع تكاليف الخدمات، بل وكم سيحرمنا من خدمات، وكم سيُغيّر من حياتنا؟

إن حدث هذا، فسيتغير عالمنا وتتغير حياتنا كثيرًا، ولكن نحو الأسوأ.

نحن نغفل عن تغير عالمنا؛ لأن هذا التغير قد حدث بالتدريج نسبيًا، واعتدنا الدهشة، لبعض الوقت، مع كل خدمة تكنولوجية ذكية جديدة، بل أصبحنا نصاب بالدهشة إن لم يأتنا كل يوم شيء جديد مدهش، ولكن سنعلم حجم الكارثة، نعم الكارثة، إن فقدنا كل ما ذكرناه دفعة واحدة.

هل نتصور هذا غير قابل للحدوث؟ فلنتصوّر أنه قابل؛ فقد يؤدي تغير مناخي؛ بسبب التلوث، أو لسبب آخر له علاقة بالطبيعة، إلى التأثير على تركيب الهواء والغلاف الجوي، ويجعل نقل الموجات أمرًا غير ممكن. واليوم كل ما ذكرته، وأكثر بكثير، يعتمد على موجات للبث الإذاعي والتلفازي، وبث أبراج الهاتف المحمول، وموجات التواصل مع الطيران والرادارات العسكرية والمدنية، وغيرها كثير.

نعم توجد نواقل (كابلات) أرضية تعوض بعض النقص، ولكن ليس كله، ولكن دعونا نتصور أنها -بدورها- أصبحت غير قابلة للعمل حتى يكتمل المشهد، وكي يكتمل المشهد أكثر، تصوروا حياتنا اليوم بلا كهرباء أيضًا.

فهل يمكنك أنت، وهل يمكنني أنا، وهل يمكننا نحن -جميعًا- العودة إلى الوراء، إلى ما قبل مئة عام فقط؛ حيث لم تكن هذه الخدمات جميعها متوافرة؟

مئة عام فقط، فكيف بماضويين يدعوننا للعودة إلى قيم وثقافة وعادات وأنماط عيش قديمة، تعود لقرون سابقة عديدة، أكل الدهر عليها وشرب، يوم كانت معارف أشهر العلماء لا تصل إلى معلومات حامل كفاءة اليوم، ويوم كانت غالبية المواليد تموت كيفما اتفق، ويوم كان معظم البشر يمضون حياتهم، دون أن يغادروا المكان الضيق الذي ولدوا فيه، ويوم كان الرحالة ابن بطوطة ظاهرة نادرة، بينما كل فرد اليوم قد انتقل في أكثر مما فعل ابن بطوطة عشرات، وربما مئات المرات، ويوم كانت أبسط الأمراض تنهي حياة الإنسان، وكانت الأوبئة جزءًا من تاريخ البشر، ويوم كان 90 بالمئة من السكان يعملون في الزراعة، وكانوا بالكاد ينتجون ما يكفي من الغذاء، ويوم كانت المجاعات جزءًا من حياة جميع الشعوب، ويوم كان 99 بالمئة من الناس أميين، ويوم كانت الخرافات هي السائدة، وغير هذا كثير، وكل هذا أصبح اليوم من ذكريات الماضي؛ بفضل العلم والمعرفة والعقل، وبفضل قيم وعادات وتقاليد وأنماط عيش حديثة.

سيقول الماضويون: إننا سنأخذ منتجات الحضارة الحديثة، ولكن نبقي على قيم وثقافة وعادات وتقاليد الماضي؛ لأنها مباركة بل مقدسة! والرد دائمًا سهل، وهو أن من أنتج كل هذه الحضارة هو العقل المستقبلي المنفتح، وسيطرة عقل ماضوي مغلق سيؤدي إلى اختفائها ثانية.

ببساطة، نحن منذ مئة عام -على الأقل- أمام مفترق طرق بين أن نكون ماضويين، أو أن نكون مستقبليين.

نحن في حاجة إلى قيم وثقافة مستقبلية، تتيح لنا أن نتحول إلى مُنتجين لقيم جديدة وعلوم جديدة وأدوات حضارية جديدة وثقافة جديدة، بدلاً من أن نكون مستهلكين ماضويين يتحكم بنا المستقبليون، ولا نملك أكثر من الشكوى واتهام الآخرين بأنهم سبب تخلفنا، وكل ما نفعله هو اللجوء إلى دعاء العاجزين والتضرع إلى رب العالمين أن يبيدهم، ولكن من حسن الحظ أن رب العالمين لا يستجيب لهذه الدعوات؛ لأنه حريص على تقدم البشر على الأرض.




المصدر