فيروز وردة على سياج بعلبك


كانت في الحادية والعشرين عندما أطلت فيروز للمرة الأولى على أدراج قلعة بعلبك عام 1956 في «الليالي اللبنانية» لتغني رائعتها ورائعة الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، «لبنان يا أخضر حلو» وسواها من أغان لا تزال محفورة في ذاكرة القلعة البديعة وفي وجدان الجمهور الكبير. كان لبنان حينذاك كما وصفته الأغنية ، أخضر وحلواً، وظل على خضاره وحلاوته في أغنيات فيروز والرحبانيين، أما واقعاً فلم يبق من خضرته وحلاوته إلا النزر اليسير الذي نجا -حتى الآن- من رياح الخراب والفساد والبشاعة والطمع والأنانية.

تستعيد قلعة بعلبك مساء غد الإثنين الإطلالة البعلبكية الأولى للمطربة فيروز في ذكراها الستين التي تصادف أيضاً عيد ميلاد «شاعرة الصوت» في الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) وهو يحل عشية احتفال اللبنانيين بذكرى الاستقلال في الثاني والعشرين من الشهر نفسه. شاءت بلدة بعلبك شعبياً ورسمياً، أن توجه تحية إلى فيروز نجمة قلعتها ولياليها فدعت اللبنانيين للتوجه مساء غد إلى القلعة للاحتفال بالذكرى المزدوجة مضافاً إليها الطابع الوطني متمثلاً في عيد الاستقلال، وأبرز ما يتخلل الاحتفال نشر صورة ضوئية عملاقة لفيروز على واجهة القلعة وبث الأغنيات التي أدتها على أدراجها بدءاً من العام1956، وضمنها أغاني المسرحيات البديعة التي احتلت تباعاً أدراج معبد جوبيتر، مثل «جسر القمر» و «أيام فخر الدين» و «جبال الصوان» و «ناطورة المفاتيح»… وغيرها.

لن تحضر فيروز الاحتفال لكنها ستكون هناك روحاً وطيفاً، فهي ما برحت تصر على تحاشي حفلات التكريم التي تعرض عليها دوماً وعلى عدم قبول الأوسمة والجوائز التي يتمنى مانحوها أن توافق على قبولها، وبعضها تبلغ قيمته المادية رقما عالياً. وهذا الموقف لا يعبر عن تكبر أو تعال بل عن نبل ووفاء للفن نفسه الذي تؤْثر فيروز أن يكون في منأى عن المزايدات أياً تكن. لكن هذه السيدة التي شاءت الانسحاب من معترك الأضواء منذ أعوام، لا تعيش حالاً من العزلة بتاتاً. الابتعاد عن الضجيج الإعلامي وأضواء الكاميرات والصفحات «الفنية» لا يعني الاعتزال أو الاستقالة. فيروز التي تقيم في دارتها في بلدة الرابية تتابع كل ما يحصل سياسياً وفنياً، ولها رأيها ومواقفها، ولا تحتاج إلى أن تطل إعلامياً ليتذكرها جمهورها الذي يزداد أكثر فأكثر. ويكفي الاطلاع على التحيات التي توجه إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليتم التأكد من الحضور الشديد والساحر الذي تمارسه هذه المطربة التي تقبل الأجيال على فنها وكأنها النجمة المشرقة التي لا يخفت ضوؤها. وتبلغ التحيات عبر وسائل التواصل ذروتها في عيد ميلاد فيروز، وكأن الجميع يريدون مشاركتها هذا العيد من دون أن يسألوا عن عمرها، فهي بنظرهم خارج لعبة الأعمار ووطأة الزمن. إنها المطربة الحاضرة دوما، المتجددة دوماً بقديمها الذي ليس بقديم، بل الذي هو ابن اللحظة المستمرة والمفتوحة على المستقبل. لم تغب فيروز يوماً عن حياة جمهورها اليومية ، ولا يمكنها أن تغيب. صوتها هو الرفيق الذي يستحيل الاستغناء عنه، وأغنياتها هي الظلال التي يفيء إليها هذا الجمهور في لحظات الحنين والحب والشوق والحزن والفرح… إنها أغنيات الحياة في كل وجوهها. غير أن فيرزو تفاجئ دوماً جمهورها أو جماهيرها فتطل كما يجب أن تطل وحين يجب أن تطل. في الذكرى الأخيرة للفنان الكبير عاصي أطلت مؤدية أغنية صغيرة كتبت كلماتها هي بنفسها وصوّرتها ريما الرحباني وكانت بمثابة تحية جميلة جداً لعاصي.

غداً تعود فيروز إلى قلعة بعلبك، ليس بالجسد وإنما بصوتها وصورتها، وطيفُها سيغني هناك: «بعلبك أنا شمعة على دراجك/ وردة على سياجك…»، والجمهور الذي سيحتفل بالذكرى هناك، سيردد أغانيها ويهتف لها من أعماق القلب.



صدى الشام