المترجم منتحلاً


من طرائف الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ذهابُه إلى أن لا وجود للانتحال في الأدب، لأن تاريخَه هو تاريخُ اختلاقِ النُّصوصِ الجديدة لسَالِفها، أي لجوء النصوص الوليدة إلى تضمين نصوص سابقة في إهابها، وأنها بطبيعتها تنظر إلى بعضها بعضاً، ومن ثَمَّ يُفْهم تركيزُه على فكرة المرايا وتبادُلها النظر في ما بينها. ويرفعُ مثْلُ هذا الرأي كثيراً من الحرج عن المبدعين، ويُفرغُ صفةَ “السرقة الأدبية” من تقريعها وقدحها، بل إنه يهذِّبها ويُجمّلها بالتفاف اصطلاحي نقدي رنّان من قبيل التناص أو التداخل والتعالق النصي، إلخ.

ويُسوّغ لنا هذا الطّرح التساؤل عن إمكانية الحديث عن الانتحال في الترجمة، فالمترجم دون شك هو أوَّل منتحل، لأنه يُشارك المؤلِّفَ نصَّه، لكن في لغة أخرى، ثم إنَّ وجودَه يرتهن بوجود نص أصل. ومع ذلك، فقد تعالت أصوات مطالِبَةً بحقه في أن يكون اسمُه ظاهراً على غلاف العمل المترْجَم، وأنْ يُعتَبَر مؤلِّفاً ثانياً للعمل، وذهب بعض منظّري الترجمة بعيداً إلى اعتباره من صانعي وجوه المؤلِّفين، فهذا فالتر بنيامين يرى في “مهمة المترجم” أن صورة المؤلِّف تتشكل من الكتاب الأصل إضافة إلى ترجماته، بل منهم من اعتبر المترْجِمَ علَّةَ وجود المؤلِّف، فلولاه لما عَبَر كاتب إلى ألسنة أخرى.

ولا يختلف الأمر في ذلك عمّا في العالم العربي، فتاريخ الأدب العربي يلفت الانتباه إلى ترجمة لا مراءَ في أنها انتحالية، لكنّ النقد لم يقف عندها مُعنِّفاً، وإنما نوّه بها، تلك حال “كليلة ودمنة”، التي احتفى بها الفكر والأدب قديماً وحديثاً، ونُسبتْ إلى مترجِمها ابن المقفَّع، عِلْماً بأنه ليس مؤلِّفَها في العربية، وإنما ناقلها إليها أو محوِّلها أو مؤوِّلُها أو معيد إنتاجها أو معيد كتابتها. لقد أفلحتْ هذه الترجمة في أن تقتل أصلها، فسكت عن ذلك الدارسون، وأقرُّوا بنسبته إلى مترجمه حتى لكأنه بمنزلة أدَبيْه الصغير والكبير.

وتتعدّد الأمثلة في تاريخ أدبنا العربي، لكن أبرزَها في العصر الحديث كُتُبُ مصطفى لطفي المنفلوطي، التي اكتسبتْ من الذيوع ما خوَّلها تشكيل الأذواق والأخلاق في أجيال عربية كثيرة. لقد كانت كُتُب المنفلوطي في معظمها ترجمات، لكنّ القراء لا يزالون ينسبونها إليه، وكأنه مؤلّفها الأصلي، مع أنها كانت ترجمة شفهية كان يُنجزُها صديقٌ للمنفلوطي، والأخير كان يُعيد صياغتَها بعربيته البيانية.

لكنّ الانتحال في الترجمة يصير مُضاعَفاً، ويُطرحُ بحدّة أكبر عند ظهور أكثر من ترجمة للنص الواحد مثلاً، وهي حال عرَفتْها مختلف الثقافات.
ما سيكون العمل في مثل هذه النازلة؟ هل ضروريٌّ الاكتفاءُ بترجمة واحدة للنص الواحد، وأنْ تسهر المؤسسات الثقافية على الترويج لذلك والسهر عليه؟ ألا يكون تحيُّفاً مُصادرة حق الآخرين في أنْ تكون لهم قراءتُهم الخاصة للأعمال، ومن ثَمَّ ترجمتُها وفق فهمهم وذوقهم، مثلما يكون لقارئ أيّ نص الحق في أنْ يفهم النص وفق معاييره؟
ألا نجد في كلّ ترجمة جديدة لعمل أدبي إضافة واختلافاً بيِّنيْن عن الترجمات الأخرى؟ يكفي أن نستدل بالترجمات التي أُنْجِزَتْ لـ “دون كيخوته” ثربانتيس أو لرواية هيمنغواي “الشيخ والبحر”.

هل حلال أنْ تتعدَّدَ القراءات وحرامٌ أنْ تتعدّد الترجمات، وهي في ذاتها قراءةٌ صِرف؟ أيَحِقُّ، في هذه الحال، الحديث عن الانتحال في الترجمة؟ وإذا جاز ذلك، فما هي مقاييس النقد الترجمي التي تسمح بالكشف عن أخذ الفرع (ب) عن الأصل (أ)؟



صدى الشام