مساواة…

22 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
4 minutes

رغدة حسن

هناك عشق يكسر الأضلاع، هذا ما تفعله سورية، أن تعشقها؛ كأن نجمًا قد عكّر سير دمك في الشرايين، لحظة انفجاره في منبعها.

هي سورية….

كنا حين نٌحشر في علب الشر المطلق؛ معلّقين من أعناقنا المعجونة بالحبق والطيّون وزبد البحر؛ في عتمة تقود إلى الرعب المجنون، ليس بسبب ما يُمارس علينا من قتل مدروس -فحسب- لكنه غبار العتمة الذي يتكدس على رئة الوقت، يصبح ثقيلًا، يجعل القلب يئن –مترنحًا- من فرط ثقله، كأنه يحمل رهقًا عن الريح، عند هذا الانهيار، واكتمال جوقة الموت، ندرك أن ثمة عشق يدور بنا كأنه الثَّمالة، يأخذنا إلى الخدر؛ حين ينفتح فم الجرح على ملح الموت.

يبدأ نزيف الدم بالتوثب أمام ماكينة القتل، معلنًا هويته، محررًا الحلم الحي النابض فينا، ممسكًا بتلابيب حناجرنا، لنصرخ: هذه بلادنا.

لا يفكر المعتقل بالموت أو الحياة، إذ بعد جولات الموت الأولى يتحرر الجسد من عتبات الألم، ينحصر انشغاله في لملمة جلده المتهالك في حقل التعذيب، وقطرات الدم المتناثرة، يعجنها، يضعها في المواجهة مع الجلاد، لتكون خط الدفاع الأول، ومهما تتالت الجولات، يكون المنتصر هو عشق المعتقل للبلاد، وصموده الذي يتحول إلى لعنة تفتك باعتداد الجلاد بأدواته الفاجرة؛ لذلك؛ يعمد إلى ممارسة أخطر أساليب التعذيب التي ستحول المعتقل –بالتأكيد- إلى حفنة من عدم. لكن البلاد التي تمور في عينيه بكامل سنديانها، وضجيج ينابيعها والذاكرة، يغلفان قلب المعتقل بإسبرين المقاومة، ليعلو نشيده ولا ينكسر. البلاد التي منحتنا سر النداء الأول، ونفخت في أرواحنا روحها؛ فنبت القمح وصارت أقراص الشمس -بين أصابعنا- تميمة وأيقونة تصدّ هجمات الموت وتحفظ الأجساد من السقوط.

ولأن أهالي المعتقلين أكثر بطولة من المعتقلين أنفسهم، يغوص المعتقل في خجل عميق، من انتظارهم الحارق، وبرغبة ملّحة في الاعتذار من دموعهم ومخاوفهم، يعطي قلبه أمرًا بالتحجر، ليتمكن من التمسك بمسامير صليبه الصدئة؛ حتى لا تتسع ثقوب كفيه وقدميه ويهوي في بئر الغياب، ليعود إليهم بما تبقى من جسد، وبكامل روحه. يقطع شرايين الخوف بنصل الظلمة القاتلة، ويحول سموم الهواء إلى ترياق يدلقه على جروحه المتقيحة. يمزق عباءة الموت المنتشرة على امتداد الأنفاق الصفراء، لتنمو القصيدة بين صليل القيد وبروق الحرية البعيدة.

قلبي المرهون لعشق أبدي اسمه سورية، تعطل هناك، كان فك الألم يعض عليه بكل ضراوة، وتعطلت معه كل الحواس، إلا حاسة واحدة، حاسة زهر الليمون القادمة من الشمال على صهوة شال أمي، الشال الذي غلفني بدفء الحقول، فتح أوردتي سرًا لإكسيرها، حررني من الوقوف في الحياد -بين الموت والحياة- وأعاد نبض دمي إلى حلبات الرقص.

عبر أنفاق الموت الطويلة في سورية المحتلة، لم أكن وحدي، كان بقربي رجال ونساء من مختلف الأعمار والمناطق، لم أشعر بينهم أنني مختلفة؛ كانت توحدنا صرخة الدم المعتقل. لذلك أشعر الآن بالارتباك والتناقض وأنا أكتب هنا، لأسباب كثيرة أهمها أن العنف الذي مورس ضد أجسادنا، لم يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين ابن البحر أو الجبل أو الجزيرة، أما السبب الثاني فهو إحساسي بالعجز أمام ذاكرة الألم، وشعوري بالخطورة كلما توغلت أكثر مع الذاكرة، في استحضار المكان والزمان، بروائحه وأصواته وبشاعته.

لقد عشت المساواة التي تطالب بها النساء في مهرجانات التحرر؛ حين تقرع طبولها في مناسبة ومن دون مناسبة، عشت المساواة مع الرجل، في بلادي، تحت الأرض، تحت سوط الجلاد، في الجحيم الجهنمي.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]