من استحالة الترجمة إلى إمكانها
25 نوفمبر، 2016
بدر الدين عرودكي
هل ما يُطلق عليه عادة “الترجمة الأمينة” ممكنة فعلًا أم أنها من المستحيلات؟
سيبدو السؤال ساذجًا ولا شك، بل وربما شديد السذاجة؛ غير أن السؤال الأكثر واقعية سينصبّ على الإمكان وعلى مداه: إلى أي حدّ يمكننا الحديث عن ترجمة ممكنة، وما مدى هذا الإمكان، وهل هناك مقومات لوجوده تجعله واقعًا طبيعيًا ممكن التحقيق؟
لابد أن أغلبنا، أو أنَّ عددًا منا بصورة أدق، قد ظن عندما أقبل للمرة الأولى على ركوب هذه المغامرة الخطيرة قبل أن يراوده أي إحساس بما تنطوي عليه، أن الترجمة تقتصر على معرفة لغتين، لغته الأم التي يفترض أنه يتقنها واللغة الأخرى التي يحسب أنه أتقنها وبوسعه الترجمة عنها؛ فيكفيه آنئذ أن يبحث في القاموس عن الكلمات المقابلة وأن يختار ما يراه أقرب إلى المعنى المراد في النص الأصلي، كي ينقل -من لغة إلى أخرى- نصًا أدبيًا أو فكريًا؛ ظانًا أنه سيُفهم في اللغة التي نقل إليها مثلما فُهِمَ في لغته الأصلية.
ثم يكتشف بعد سنوات أن الأمر ليس على هذا النحو، ولا كذلك بهذه البساطة، وتكاد المشكلات التي يواجهها -يومًا بعد يوم وكتابًا بعد كتاب- أن تكون على قدر ما يكتشفه من شراك ومصاعب تكاد بها أن ترسي لديه القناعة بما يشبه استحالة الترجمة.. أو -بصيغة أخف وقعًا- استحالة الأمانة في الترجمة لسبب بسيط: أنه لا مجال في هذا المجال للأمانة ولا للدقة إلا بصورة نسبية بل وشديدة النسبية.
سيحدث الاكتشاف فجأة ذات يوم حين نقرأ قصيدة نحفظها عن ظهر قلب مترجمة إلى لغة أخرى نعرفها، أو رواية سبق أن قرأناها وأعجبنا بها وبعالمها في لغتها الأصلية، أو كتابًا فلسفيًا أو في أي فرع من فروع العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، سنكتشف أننا في الحالات الثلاث أمام عالميْن مختلفين، لكل منهما كلماته أو مصطلحاته وقوانينه ومشاهده وإيحاءاته ودلالاته. لن يكون العالمان متطابقين، وربما لن يكونا متشابهين -أيضًا- بما أن المشكلة الأساس لا تكمن في قدرة المترجم -أيًا كان عمق معارفه اللغوية- بقدر ما تكمن في إمكانات أية لغة من لغات العالم على أن تقول ما تقوله لغة أخرى بصورة متطابقة.
هل ستؤدي بنا ملاحظة ذلك إلى القول باستحالة الترجمة؟ ربما قادتنا كثرة المقارنات بين النصوص في لغتها الأولى، وتلك التي صاغتها الترجمة في لغة أخرى، إلى ما يشبه هذه النتيجة. لكن علينا قبل الاستقرار عند هذه النتيجة العبثية أن نتساءل واقعيًا: ولكن، ما الذي ننتظره في حقيقة الأمر من الترجمة؟
نعلم حق العلم أن القارئ الفرنسي -مثلًا- لن يتلقى المعلقات العشر مترجمة إلى لغته، ولو كان مترجمها جاك بيرك، كما يتلقاها القارئ العربي؛ مثلما لن يتلقى القارئ العربي قصائد سان جون بيرس، ولو كان مترجمها أدونيس، كما يتلقاها القارئ الفرنسي. يسري ذلك على النصوص الشعرية مثلما يسري على النصوص السردية في الآداب العالمية بلا تمييز. من هنا نفهم لماذا حرص كبار مترجمي النصوص الجوهرية في تاريخ الآداب العالمية، على عدم اعتبار ترجماتهم نصوصًا نهائية. أعاد جاك بيرك النظر مرارًا وتكرارًا في ترجمته للمعلقات العشر -لدى كل طبعة جديدة كانت تصدر بها- وذلك على ما بذله من جهد خارق في ترجمتها، ولخص رأيه في موضوع الترجمة حين كتب عند نشر ترجمته للقرآن: محاولة ترجمة.
عرفت اللغة الفرنسية -خلال القرن العشرين على الأقل- عددًا كبيرًا من الترجمات للقرآن توضح المقارنة بينها؛ المعنى الذي حمل بيرك على تسمية ترجمته محاولة. وبوحي من هذه التسمية يمكن وصف الترجمة بأنها محاولة نقل للنص الأصلي إلى لغة أخرى لا يمكنها أن تفلت من مختلف التحفظات اللغوية والدلالية والمعرفية التي يمكن أن تستثيرها أو تستدعيها.
سنلاحظ في مقارناتنا أن المشكلة المعنية هنا، أي مشكلة التطابق التام بين النص الأصلي والنص المُترجم، مشكلة عامة في كل اللغات وليست وقفًا على اللغة العربية؛ كما يظن بعض العاملين في الترجمة من العرب على وجه الخصوص، حين يتهمون اللغة العربية -جهلًا بها أو كسلًا- بقصور قدراتها على استيعاب المفاهيم الحديثة في العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، ناسين أن العرب استطاعوا أن ينقلوا إلى لغتهم ثمرات الفلسفة اليونانية في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة، في عصر لم تعرف لهم فيه كتابات من قبل في هذا المجال!
استحالة المطابقة لا تعني بطبيعة الحال استحالة المقاربة. لكن هذه الأخيرة تطرح في بيئة اللغة العربية اليوم، عددًا من المشكلات التي واجهت ولا تزال تواجه المترجم العربي في ممارستها، والتي يمكن محاولة حصرها -قدر الإمكان- في فئتيْن: الأولى في ما يخص ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، والثانية فيما يخص ترجمة المُبدعات الأدبية.
فوضى المصطلحات هي المشكلة الأساس في الفئة الأولى. وهي أول ما يمكن ملاحظته في ما يصدر من ترجمات في مشرق العالم العربي وفي مغربه، في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. ليست المشكلة -كما سبق القول- في اللغة العربية، بقدر ما هي افتقار المترجم العربي إلى قواميس حديثة وناجعة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، تكون ثمرة عمل المؤسسات المختصة بها، وفي مقدمتها بالطبع المجامع اللغوية العربية التي تبقى شديدة التقصير في هذا المجال.
تجدر الإشارة هنا إلى محاولات بعض مؤسسات الترجمة العربية الإسهام في توحيد المصطلحات، عن طريق الطلب إلى المتعاونين معها وضع فهرس تفصيلي بالمصطلحات التي اختاروها في ترجمة كتبهم. ولقد بات لدى واحدة من هذه المؤسسات كمًّا من المصطلحات نشرته على موقعها تحت عنوان “مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة”. لكنه حتى الآن لا يزيد -للأسف- عن أن يكون تجميعًا للمصطلحات التي اعتمدها مختلف مترجمي المنظمة في ترجمة كتبهم عن عدة لغات أوربية خصوصًا. ربما يصلح هذا العمل كي يؤلف قاعدة مشروع أوسع يطمح إلى توحيد المصطلح، بناء على قواعد لغوية ومعرفية تلائم الفروع العلمية المختلفة، وتأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات نظر المترجمين والمختصين واللغويين؛ بحيث تؤدي إلى وضع قاموس عام يمكن أن يقبله ويعتمده المترجمون في مختلف البلدان العربية.
أما في ما يخص ترجمة المبدعات الأدبية فالمشكلة -وهي متشعبة وشديدة التعقيد وإن كان ذلك على أصعدة أخرى- تمسّ هنا بالذات لا قدرة المترجم فحسب، بل حساسيته ومنهجه في تناول المبَدع الأدبي. ههنا تبرز أمامنا شراك الترجمة ومطبات دهاليزها الخفية التي لا تتكشف لنا إلا بعد لأي! ذلك أن الأمر لا يتعلق بالعثور على مصطلحات يمكن نحتها أو تركيبها في اللغة التي تنقل إليها؛ انطلاقًا من معطيات تلك التي تتم محاولة ترجمتها، بل يمس خصوصًا الكلمات الجوهرية التي تعتبر مفاتيح المُبدع السردي أو الشعري، وهي كلمات غالبًا ما تفلت من كل إمكان للتحديد، يسهل العثور على معادلاتها في اللغات الأخرى. والأمثلة على مثل هذه الكلمات أكثر من أن تحصى. يقول ميلان كونديرا في قاموس كلماته الجوهرية عن فعل (Ensevelir) باللغة الفرنسية (وترجمته: كفَّنَ) أنه ينزع “بصورة رحمانية عن أكثر الأفعال إثارة للرعب جانبَه المادي المرعب. ذلك أن جذر الفعل (sevel) لا يستثير فيّ شيئًا، في حين أن رنين الكلمة يحملني على الحلم: نسغ (sève) ـ حرير (soie) ـ حواء (Eve) ـ إيفلين (Eveline) ـ مخمل (velour)؛ حَجْبٌ بالحرير وبالمخمل.” فإلى أي حدٍّ يمكن للكلمة العربية “كفَّنَ” التي نترجمها بها أن تؤدي -من حيث المبدأ- معناها وإيحاءاته المختلفة هذه؟
هنا مكمن المعضلة الأساس في ترجمة المبدعات الأدبية، الروائية منها والشعرية.
كلمة أخرى مماثلة فيما يمكن أن تنطوي عليه –أيضًا- من إيحاءات بفعل تاريخ استخدامها لا بفعل رنين حروفها أو دلالات عناصرها، وهي الكلمة الفرنسية”Libertin” لقد انطوت هذه الكلمة بالفرنسية دومًا على مفهومين يدلان على واقع واحد. ففي القرن السابع عشر كانت الكلمة تعني كلّ من كان على استعداد للقتال حتى التضحية بنفسه دفاعًا عن حرية التفكير، ولا سيما التفكير ضد الفكر السائد. ثم عنت بعد ذلك كل من وسَّعَ من مساحة مفهوم هذه الحرية إلى الحياة اليومية والعلاقات بين الرجال والنساء والأخلاق، وهكذا انطلقنا من الحرية حتى الإباحية ولا سيما الإباحية الجنسية. لكن هذه الأخيرة طريقة أكثر شهرة، ومن ثم فهي أكثر قوة، لمناهضة الفكر والنظام السائدين.”
ألا نرى كيف أن كلمة “المتحرر” تارة أو كلمة “الفاسق” تارة أخرى التي نترجم بها هذه الكلمة -حسب المراد منها في سياق النص- تبتعد بنا عن إيحاءات الكلمة الأصلية ومدلولاتها؟ وفي هذه الحال، ما هي الكلمة العربية الأخرى التي يمكن أن تقوم بوظيفة أداء كافة المعاني والدلالات لا مجرد تقديم المعادل الموضوعي الذي نراه جديرًا بها؟
في تساؤلاتنا هذه إنما ننوس بين الاستحالة والإمكان. أما في ما ننجزه من ترجمات، فمن المؤكد أننا نبقى ضمن حيز الإمكان، وبقدر ما تسعفنا به ذخيرتنا من المعرفة والتجربة، إن أمكننا توظيفهما توظيفًا حسنًا.
[sociallocker] [/sociallocker]