خضر زكريا يكتب: صادق جلال العظم… النبيل الحر


خضر زكريا

دُعي صادق العظم مرة إلى حفل عشاء في مطعم النبلاء بدمشق، يحضره بعضٌ من كبار المسؤولين في الدولة. وعندما حاول الدخول إلى ساحة المطعم بسيارته القديمة (من طراز ستروين دو شوفو مغلقة)، بين سيارات المرسيدس السوداء الفارهة، أوقفه الحارس متسائلًا: إلى أين؟ قال صادق: إلى المطعم. قال الحارس ولكن هذا مطعم النبلاء، والمدعوون هم كبار المسؤولين. أجاب صادق: هل تعلم أنني النبيل الوحيد بين هؤلاء جميعًا؟

كان صادق النبيل الوحيد بين الجميع بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو ابن عائلة العظم الأرستقراطية الدمشقية العريقة. وكان النبيل الوحيد بالمعنى الدقيق أيضًا، بصدق أطروحاته الفكرية ونبل مواقفه السياسية.

انحاز صادق العظم منذ سنين شبابه الأولى إلى القضايا التي تهم الشعب، فانخرط في العمل مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وعبر عن خلاصة تجربته فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي في “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، الكتاب الذي عرّى الذات العربية والأنظمة العربية، والذي أعلن فيه صادق رفضه النزعة التآمرية، التي تلقي اللوم على الآخرين وترفض الاعتراف بالمسؤولية عن كارثة 1967، وغيرها من الهزائم والكوارث.

ولم يتراجع صادق يومًا عن منهجه النقدي في التحليل، مهما كلفه ذلك من هجمات وملاحقات واتهامات. فهو لم يأبه لتلك الحملة التي أدت إلى ملاحقته قضائياً بعد صدور كتابه الأشهر “نقد الفكر الديني”، الذي تصدى فيه بكل وضوح وصراحة للبنى الفكرية السائدة في مجتمعاتنا العربية وللإيديولوجيا الغيبية التي تتحكم بها. الدين عند العظم: “قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرنا”، ولذا لابد من نقده نقدًا علميًا صارمًا.

وتحلى صادق بجرأة استثنائية في كتابه “ذهنية التحريم” الذي تجاوز فيه كل الخطوط الحمراء التي بدا أن المجتمعات العربية والإسلامية وضعتها في وجه الكتاب والمفكرين. لقد ركز في كتابه هذا، وفي الكتاب الذي تلاه مباشرة “ما بعد ذهنية التحريم”، على نسق المحرمات السائد في بلادنا، ودافع بحزم عن الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، الذي أصدر الخميني فتوى تدعو إلى قتله بسبب روايته “آيات شيطانية”. فحرية الفكر عند صادق العظم هي الخط الأحمر الذي لا يقبل تجاوزه.

نعم حرية الفكر! مع أن صادق يعلن دائمًا تبنيه للمنهج الماركسي في التحليل. ففي كتابه الفلسفي العميق “ثلاث محاورات فلسفية: دفاعًا عن المادية والتاريخ”، الذي يعدّ بحق من أبرز القراءات النقدية لتاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يخصص للماركسية الحيز الأكبر بوصفها “الفلسفة المعاصرة التي لا يمكن تجاوزها” كما قال جان بول سارتر، وهي ستظل “فلسفة العصر النقدية بامتياز مادامت التشكيلة الرأسمالية هي العصر بامتياز”. وللنقد لدى ماركس أهمية كبرى بوصفه امتدادًا متطوّرًا وراقيًا “لمنهج الشك عند ديكارت في وظيفته الإبستمولوجية وأهميته التاريخية”. وعندما غاب المحتوى النقدي في الفكر الماركسي “في العقود التي سيطرت فيها الدوغمائية على حركته ومحتواه”، فقد حيويته وقوته. الماركسية عند العظم ليست نصًا مقدسًا صنعه ماركس، بل هي استمرار “لتقليد علمي ثوري تحرري طويل عريق، وتتويج له في الوقت ذاته، في حقبتنا الحاضرة”. والماركسية “ليست الموافقة على كل ما قاله ماركس، أو التصديق الآلي لكل تحليل قدمه، أو الاقتناع بصحة كل النتائج التي توّصل إليها”. هذه الرؤية الواسعة الأفق للماركسية التي تبناها، هي التي جعلته، كمفكر ماركسي، ينظر إلى حرية الفكر على أنها القيمة الإنسانية الأعلى في عصرنا.

ولم تُثن السنون صادق العظم عن إعلاء شأن الحرية في جميع الظروف. كان موقفه من ثورات الربيع العربي بوجه عام، والثورة السورية بوجه خاص، تعبيرًا واضحًا عن شغفه بالحرية، ونموذجًا فذًا لما ينبغي على المثقف العربي أن يعبر عنه. فقد رأى في الربيع العربي “عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد”. ورفض «استقرار القبور» الذي طبّلت له وزمرت أجهزة إعلام الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية.

يقول صادق: “الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو ”تعلمنت” هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الانظمة الشمولية تفسخا وعنفا. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها”. وهي تصفية حسابات لسورية على نفسها، لأن سورية “تقبّلت لفترة طويلة جرائم حكامها في القتل والتعذيب وارتكاب المذابح والحبس التعسفي والاختفاء القسري وعشرات آلاف المفقودين بهدوء، وكأنّ ذلك كله ممارسة عادية ومسألة طبيعية”. وهو (العظم) مع هذه الثورة لأن سورية “بثورتها اليوم تبذل هذا الكم الهائل من الدماء تكفيرًا عن خطاياها هذه كلها ومحوًا لعارها”. هو مع الثورة السورية “بغض النظر عن طبيعة القناعات التي أحملها إن كانت يسارية أو ماركسية أو وسطية، أو حتى يمينية”.

لكن صادق لا ينسى ماركسيته عند تحليل القوى المحركة للثورة السورية. يجيب عن أحد الأسئلة قائلًا: “نعم، للثورة في سورية بعدها الطبقي الصراعي دون الاستهتار ببعدها الديني–المذهبي الصراعي أيضاً، لكن علينا ألاّ نأخذ المسألة الطبقية هنا بمعناها الماركسي–الأوروبي الكلاسيكي، حيث تتواجه بروليتاريا صناعية وطبقة عاملة عموماً من جهة، مع طبقة برجوازية مالكة لوسائل الانتاج ومحتكرة لفضل القيمة، من جهة ثانية. الأقرب إلى واقعنا هو صراع طبقي كما شخصه وبيّنه فرانز فانون في كتابه الأشهر «معذبو الأرض» (…). فالصراع الطبقي موجود في الثورة السورية بهذا المعنى، حيث يقوم معذبو الأرض السورية بثورة على حكم وحزب وطغمة عسكرية– مالية أمنية متسلطة وعلى قيادة وزعامة «وطنية» أبديتها من أبدية الآلهة. المفارقة الملفتة هنا هي أن عمال وفلاحي وحرفيي وطلبة وصغار كسبة سورية (والجيش الحر منهم وفيهم) هم الذين يشكلون القاعدة الطبقية للثورة على حزب كان يقدم نفسه في يوم من الأيام على أنه حزب العمال والفلاحين، وعلى قيادة «وطنية» كانت تدعي أنها بالفعل منهم وفيهم وجاءت أصلاً لتخلصهم من مظالم إقطاعية وبورجوازية واستعمارية سابقة. هذه الكتلة من معذبي الأرض السورية، لا تتحرك بوعي طبقي-مصلحي واضح وحيد، بل تتحرك أيضاً بفعل انتماءاتها الدينية وعواطفها الطائفية وولاءاتها المذهبية، وبنوازع الثأر والانتقام لكرامتها المهدورة وحرياتها المسلوبة، وواقع القهر الشديد الذي عاشته وتعيشه، بالإضافة إلى تهميشها الدائم وخيباتها المتراكمة والمستمرة”.

انهض، صادق، من فراش مرضك، فنحن اليوم أحوج ما نكون إليك، لتواصل إضاءة الطريق أمامنا في هذا الجو من الظلامية الفكرية، والديماغوجية الإعلامية

المصدر: جيرون

خضر زكريا يكتب: صادق جلال العظم… النبيل الحر على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا