‘تطابق آلية العقلين: الإسلامي والعلماني في سورية’
28 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
مضر الدبس
منعًا لأي التباس قد ينتج بسبب هذا العنوان الذي يمكن أن يُحمَّل بعدًا يفيد تطابق تيارين معروفَين –ومُعرَّفين- بتنافرهما وتناقض نتاجهما الفكري، لا بد من أن نبدأ بتثبيت النقاط المنهجية التالية:
أولًا: إن موضوع المعرفة غير آلياتها، ومن الممكن أن نستخدم الآليات العقلية نفسها في السير في مقاربة موضوعات معرفية مختلفة أو متناقضة. سنتعامل -هنا- مع آلية العقل والتفكير الإسلامي والعلماني في سورية، أو لنقل مع توصيف لملاحظة تفيد بتطابق المنهجية، وطريقة بناء الاستنتاجات والمواقف عند الإسلاميين، وعند العلمانيين السوريين.
ثانيًا: إن آلية العقلين: الإسلامي والعلماني في سورية (يمكن عدّ سورية -هنا- أنموذجًا للمنطقة بأسرها)، وملاحظة تطابق الآليتين ومحاولة نقدهما، هو ما سيكون موضوع هذا المقال. ولن يكون الإسلام والإسلاميون، أو العلمانية والعلمانيون موضوع طرحنا أو مقاربتنا.
ثالثًا: الإسلام والعلمانية، بوصفهما فضاءً فكريًا يحملان آلياتهما العقلية من داخلهما، وليست هذه الآليات ما سيكون موضع طرحنا، وإنما نتناول تلك الآلية المشتركة التي تفرض نفسها على التيارين بعد ان أنجزت -هي ذاتها- عملية إتمام تحويلهما إلى أيديولوجيات سياسية دوغمائية.
رابعًا: يستهدف هذا الطرح توصيف ظاهرة، وملاحظة أبرز سماتها باختصار، ويعترف بعدم شموليته؛ فلا يدّعي الجزم، ولا يقبل بالتعميم. وبالتأكيد، لا تشمل الأحكام كل الذين يسمون أنفسهم علمانيين، ولا كل الذين يسمون أنفسهم إسلاميين. ولكن يندرج الكلام في توصيف ظاهرة تشمل جزءًا منهم. ولا يمكن أن نتجاهل وجود فكر علماني وفكر إسلامي ناضج، يعي ذاته والآخر، ومتصالح مع نفسه ومع محيطه.
خامسًا: يقول كانط في كتابه “نقد العقل المحض”: “إذا اتفق أن وجدت كلمة واحدة، لا غير، لتعبر عن مفهوم معين، وكانت ملائمة جدًا في معناها المتعارف عليه بدقة لهذا المفهوم الذي من المهم جدًا ان يُميَّز عن مفاهيم أخرى قريبة منه، فمن المستحسن ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وألًا نستخدمها مرادفة لمجرد التنويع،[…]، بل علينا أن نحافظ بعناية على مدلولها الخاص؛ لأنه، خلافًا لذلك، يحدث بسهولة في حال لم تعد العبارة تشغل انتباه القارئ بشكل خاص أن تضيع بين كمية من الألفاظ الأخرى ذات المعنى المختلف جدًا عنها، وتضيع أيضًا الفكرة التي بإمكان تلك الكلمة أن تؤديها وحدها.” وهذا -في الحقيقة- ما حصل لكلمة “العلمانية” في سورية والمنطقة عامةً؛ وقد ساهم الإسلام في أغلب دلالاته الفكرية والاجتماعية والسياسية في هذا الانفلات الدلالي لكلمة العلمانية. وذلك يمكن أن نلاحظ: كما أنه لا يوجد إسلام واحد بل “إسلامات”، لا نجد علمانية واحدة بل “علمانيات”. ويمكن أن نلاحظ حجم الابتذال في استخدام هذا المصطلح (بل المصطلحين كليهما).
بعد هذا التثبيت المنهجي، يمكن أن نلاحظ تطابق آلية العقلين: الإسلامي والعلماني في سورية، كما يلي:
- آلية أيديولوجية متطابقة: عندما نتبنى فكرًا أيديولوجيًا، فإننا بالضرورة نفترض امتلاك “جماعتنا” -التي تشاركنا الإيمان بهذه الأدلوجة المعينة- للحقيقة المطلقة، ونفيها عن الآخرين؛ ما يجعل نسبية المعرفة مفهومًا مهمشًا لا قيمة له. فـ “العلماني” الذي يرى بطلان القرآن بالمطلق، ويرى في الإلحاد، أو فعل المحرمات، ضرورة من أجل علمانيته، يتطابق في آلية تفكيره مع “المسلم” الذي يرى أن إسلامه لا يصح إلا بتكفير العلماني، ومناهضة الديمقراطية، بوصفها “ضلالة غربية”، ورفض العقد الاجتماعي، بوصفة “بديلًا” للقرآن الكريم. تحكم الآلية المشتركة نمط التفكير الإيماني، (الدوغمائي)، التسليمي الذي يفترض امتلاك الحقيقة المطلقة، وتوقف سيرورة التطور عند هذا اليقين.
- آلية نظرية بعيدة عن الواقع: إن الفكرة التي تنادي بالخلافة في القرن الحادي والعشرين، وتتمسك بها طريقًا أوحد، أو التي تنادي بـ “الدولة الإسلامية”، وتتمسك بها طريقًا أوحد؛ لا تختلف عن تلك التي تنادي بنكران الدين واحتقاره، بوصفه طريقًا أوحد لبناء “الدولة العلمانية”. النظريتان -كلتاهما- لا تأخذان الواقع في الحسبان، وتتعاليان على سنن ومنطق التاريخ التطوري. تفرضان -من فوق- نظريات طوباوية محضة لا يقبلها التنفيذ الواقعي.
- احتكار الدولة: “الدولة الإسلامية”، و”الدولة العلمانية”، مصطلحان متطابقان في آلية مقاربتهما لهدفهما. والحقيقة أن الدولة في خدمة المواطن، والبعد القيمي فيها وسيلة من أجل ذلك. أما عندما تتحول القيمة إلى هدف، سيتحول -بالتأكيد- المواطن عند ذلك إلى وسيلة. (نؤكد هنا على توصيف الإسلامية والعلمانية بالمعنى الأيديولوجي السائد في الظاهرة الموصوفة، وليس بالمعنى الفكري العلمي الأصيل الذي يفيد أن الدولة الوطنية -بالضرورة- دولة تتصف بالحياد الإيجابي إزاء الأديان. كما يستثني هذا الحكم استخدام المفهومين، بوصفهما شعارين لخدمة اهداف أخرى).
- آلية تفكير إقصائية: بما تحمل من دوغمائية وعقائدية (فهي بالضرورة إقصائية)، لا تستطيع تكوين إطار جامع على المستوى السياسي/ الدولة؛ استنادًا إلى عقدٍ اجتماعي توافقي أصيل، فتستمر في الخلط بين المجال الخاص ومكان ممارسته/ المجتمع المدني: مجال الخلاف والتعدد؛ والمجال العام/ السياسي/ الدولة: مجال التوحد والاندماج.
- آلية تعيد إنتاج التسلطية: بما تحمل من أفكار نابذة لاشتقاق آلية فكرية توافقية ملائمة لبناء هوية وطنية جامعة، ناتجة عن التعصب ورفض المنهجية القائمة على البناء على المشتركات، وإعطاء التاريخ فرصته؛ ليحمل التطور المطلوب. والتياران -كلاهما- يشتركان في هذه الآلية.
- آلية تقوم على الوهم: من الوهم الاعتقاد بأن الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تُنجَز دفعة واحدة في مرحلة معينة من التاريخ، وتُفرض على الشعوب من فوق، وهذا ما يشترك في آلية تفكير الطرفين: لا تأتي مقولات، من قبيل “الإسلام هو الحل”، أو مقولة “العلمانية أو التخلف”، إلا في إطار منتجات هذه الآلية؛ فتنكر دور التاريخ في تشكيل وتطوير الأنظمة والحياة، وتتعالى على سنن التطور والتاريخ.
- النهج الإيماني: إذا كانت آلية التفكير الإسلامية آلية تستند إلى النهج الإيماني؛ فإن العلمانية المؤدلجة تستند إلى الإيمان المقلوب.
- الانقسام: لا تستطيع الآلية القائمة على “الدوغما” (الإيمان والإيمان المقلوب)، الصمود موحدةً، من دون ان تنقسم داخليًا إلى فرقٍ وجماعات -في الغالب تكون متصارعة- فنجد العلمانية غدت علمانيات وشعارًا لمجموعات متمايزة، والإسلام بات إسلامات، ووسيلة لأهداف مغايرة.
- آلية تستند إلى بنية فكرية هشة: تعززها وتتعزز بها، فالقيم الإسلامية والعلمانية، على حدٍ سواء، تنهار في لحظة واحدة أمام عصبية قبلية، أو انتماء عشائري، أو مصلحة مادية… إلخ.
- آلية سكونية: لا يحاول أصحاب الأيديولوجيتين تطوير رؤيتهم لأنفسهم ولمجتمعاتهم وللكون والعالم من حولهم. بل يحاولون تلفيق العِلم؛ ليخدم تصوراتهم السكونية التي توفقت عن التطور في مرحلة ما من التاريخ الشخصي.
أخيرًا، ربما يكون من أخطر ما تؤدي إليه هذه الآلية المشتركة في التفكير هو إنتاج التصنيف الهوياتي أو الانتمائي؛ بحيث يتعمق الفرز (هم ونحن)، ثم يتطور إلى نزاع وحروب لا لشيء جوهري، بل إن سببًا كـ “ناقة البسوس” قد يكون كافيًا لفوضى عارمة، أو حربٍ طاحنة لا يخسر فيها إلا الإنسان. فضلًا عن تحويل الأنظار عن هدف السوريين الأساسي في الحرية والكرامة، وإسقاط الاستبداد والتسلط والطغمة الحاكمة.
[sociallocker] [/sociallocker]