الطريق إلى خان الشيح


عبد الرزاق دياب

المخيم بفتنة الفوضى والغبار. ولا بيت يحرس الأسفلت المهشم على حواف الطريق الذي يصل الأرياف المتلاحقة. مدن تهرع خلف بعضها يتوسطها خان الشيخ، هذا المخيم الدافئ الفقير. هنا وسط العالم الموشى برائحة العشب المطرز بالفقر بين الريف الغربي لدمشق والقنيطرة.

ملعب كرة القدم الترابي، وفرق دوري المنطقة تسابق لنيل الكأس النحاسي المعنوي، وإدارة الفريق بالكاد تجمع أجرة الباص الذي يقلها مع سندويشات الفلافل، وزجاجات كازوز كراش البرتقالية ذات المذاق الطائش. ثمة أولاد سيرمون الحجارة ويهربون إلى الشوارع الضيقة الفقيرة، ونسوة يحرسن أبواب البيوت بحكايات الجيران السرية.

خان الشيح لا تبعد كثيرًا عن مدينتي التي تجاور جبل الشيخ، وهذا يعني أن طريق العودة المسائي سيكون سيرًا على الأقدام، وخارج الأسفلت سيحث المراهقون الخطى كي يسبقوا الغروب، وأما الكبار فسيعودون على ظهر الباص الذي يوصلهم إلى مفارق القرى المرصوفة بضحكات هستيريا الأرض المفتوحة إلى الجبل.

في كل خطوة أغنية مارقة، وهمسات عن بنات المخيم الجميلات. الولد المشاغب يهمس “حلوات الفلسطينيات وقويات”. أما اليافعين فيحلمون بالمباراة القادمة. ثمة شوارع ضيقة للهمس قبل الوصول إلى ملعب خان الشيح، ومواعيد بريئة لا تعدو نظرة سريعة، فأكثر منها يوصلك إلى المعصية، بل إلى حجر طائش يشج رأسك كذكرى. مررت بخان الشيح عاشقاً.

كبرنا ونسينا طريق المخيم. ابتلعت الشام الساحرة ظلالنا، والفتيات اللواتي علقن في حلوقنا عقودًا، وفجأة بعد أكثر من ربع قرن عاد المخيم إلى دفئه، واحتضن آلاف الفارين من الموت، وفتح بيوته الفقيرة لإخوة الفقر. ثم غاص بالرصاص.

اليوم. خان الشيح يرحل مع لاجئيه جميعًا إلى المجهول. بعد حصار وموت يحرق أهل المخيم أشياءهم التي لم يستطيعوا حملها. ويرمون بذاكرة مزدوجة عن اللجوء والهجرة. لا أحد يوقف هذا البكاء الجنائزي، ولا موت أبشع من طريق جديد نحو مجهول جديد. يا الله ألم تنتهي رحلة دفن الأهل من أرض لأرض. أما آن حتى لقبورنا أن تسكن أرضًا واحدة نهائية.

لا أعرف أين هو أبو حسين ابن المخيم الذي كان يوزع علينا كؤوس الشاي في مقصف كلية الآداب خلسة. كان ينظر إلينا بعيون مفتوحة تقول هؤلاء مني، وبعد انتهاء دوامه يقف ساعات في كراج البرامكة منتظرًا اللاشيء. أبو حسين هل ما زلت على قيد المخيم؟

في السنوات العشرين الأخيرة كان خان الشيح بالنسبة لي طريق العبور إلى القنيطرة. وحتى في الذاكرة لا يمكن لي أن أتخيل طريقًا إلى وطني الصغير المغتصب لا يمر بالمخيم. كان المخيم أهلي. رجال سمر البشرة بكوفيات عزيزة عالية، ونسوة شامخات باسمات، وشباب يمرون بالحياة دون اكتراث. وشعراء مهووسون بالله والمرأة والوطن. المخيم  يمر بي.

يرحل المخيم. أرحل معه، وأينما حل خان الشيح أكون. في الطريق إلى المجهول ما زلت ذاك الفتى الذي يركل الحصى من ملعب المخيم مارًا بحواريه، إلى آخر شهقة حياة.

“الترا صوت”