البنية التحتية للتغيير


محمد ديبو

قبل اندلاع الثورة السورية، وتحديدًا في الفترة الكائنة بين سقوط بن علي وبداية الثورة، كان ثمة رأي يتردّد بين النخبة السورية والناشطين المهتمين بالتغيير، مفاده أنّ أيّ تغيير يحدث في سورية، سيكون ما عليه مصر في عهد مبارك، أي أن يحصل السوريون على ما كان متوافرًا للمصريين في عهد مبارك.

بغض النظر عن مدى مطابقة الكلام السابق للواقع، وعن كون الحالة المصرية تراجعت اليوم عما كان متاحًا في عهد مبارك نفسه، وعن كون الواقع تجاوز -بأشواط- كلامًا كهذا، فإنّ الكلام السابق يشير إلى نقطة مهمة، تتعلّق بممكنات اللحظة وحدودها، إذ إنّ إنجازات أيّ ثورة تتعلق -في نهاية المطاف بمحصلة قوى عدة، يمكن أن نطلق عليها مصطلح “البنية التحتية للتغيير”، فنسبة التغيير وحدوده محدودة -بالضرورة- بإمكانات هذه البنية وقواها، ولا يمكن تجاوزها مهما بلغ المد الثوري أوجه، سواء أبقي النظام أم سقط؛ لأنّ الانتقال من ضفة “الثورية/ الشارع” إلى ضفة الإنجاز (إسقاط النظام أو تغييره، إدارة المرحلة الانتقالية، بناء الدولة الجديدة…) يتحدّد بمدى قدرة القوى المكوّنة للبنية التحتية للتغيير على إحداث هذا الانتقال الذي لا يكون، إن لم تمتلك تلك القوى الوعي التام بضرورات هذه المرحلة، وممكناتها أيضًا، والذي هو (التغيير) نتاج صراعها مع القوى المضادة للتغيير في المجتمع ذاته، مع الأخذ في الحسبان الاستطالات الخارجية لكل قوة من تلك القوى.

أولى هذه القوى، تتعلّق بالنخبة السياسية، متمثلة بالأحزاب السياسية التي يُفترض أن تمثل البديل السياسي عن النظام المثار ضده، وثانيها هي القوى الاقتصادية والاجتماعية التي ترى أنّ التغيير يصبّ في مصلحتها، والثالث يتعلّق بالعلائق القائمة بين النخبة السياسية والقوى الاجتماعية من جهة ومجتمعها من جهة أخرى، وبين القوى الاجتماعية والمجتمع من جهة ثالثة.

إلى جانب هذه القوى، هناك القوى المضادة للتغيير، والتي تتمثل بالسلطة المستبدة المثار ضدها، الأحزاب السياسية المضادة للتغيير، القوى الاقتصادية والاجتماعية (طائفة، عشائرية، قبيلة، عائلة، طبقة…)، والعلائق القائمة بينهما أيضًا.

بين هاتين القوتين، محدّدتي الملامح، يبقى الشارع مجال صراع عمل القوى السابقة، إذ على الرغم من أنّ فطرة الحرية هي من يحدّد سلوكه على المستوى النظري، فإن آليات فعل القوى السابقة تلعب دورًا كبيرًا في التحاقهم بهذه الجهة أو تلك، وهذا يتعلّق بمدى قدرة كل طرف على جذب الجماهير نحو خطابها وفعلها.

الثورة، تعني -أول ما تعني- الصراع المفتوح بين هذه القوى في ساحة الوطن، ونتائج هذا الصراع محدّدة بقوة كل قوة ووعيها، ومدى فهمهما لإمكانيات المعركة وحدودها.

في الضفة الأولى، كان واضحا أنّه لم تكن في سورية نخبة/ أحزاب سياسية بالمعنى المأمول لهذه الكلمة، فالمتوافر هو ما نجا من قمع الاستبداد الشديد، فضلًا عن كون الجذر الأساس لهذه الأحزاب إيديولوجيًا وفكريًا هو جذر النظام ذاته، وأن آليات وتفكير هذه الأحزاب لا تزال في الماضي أكثر مما هي ابنة اللحظة، علاوة على عجز التفكير بالمستقبل، في حين أنّ القوى الاقتصادية الاجتماعية هي القوى التقليدية ذات الوعي التقليدي والماضوي، والتي تميل إلى الوعي الديني الطائفي أكثر مما تميل إلى الوعي المدني (وهو أمر طبيعي في ظلّ الاستبداد الذي سعى إلى ذلك)، وذلك بعد تضعضع الطبقة الوسطى وانهيارها منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي الطبقة التي يمكن القول بأنّ عملية “اللبرلة” الاقتصادية في سورية قد أطاحت بها كليًا.

صحيح أنّ النخبة، أو الأحزاب السياسية المعارضة كانت منعزلة كليًا عن القوى الاجتماعية، وعن الشارع في آن؛ بسبب الاستبداد الذي لم يكن يسمح بتلك العلاقة، إلا أنّه استعيض عنها بعلاقة رمزية لعبت دورًا سلبيًا، فالرمزية التي كانت تحظى بها المعارضة لدى قطاعات كبيرة من القوى الاجتماعية والشارع، جعلت الأخيرة تتوّهم تلقائيًا أنّ تلك المعارضة قادرة على قيادة الثورة، وهو ما تبين فشله، وحين اكتشفت القوى الاجتماعية عجز نخبة المعارضة السياسية تنطعت بعض قواها لمهمة القيادة بوعيها التقليدي، فتمكنت من كسب ود الشارع؛ لأنّ العلاقة بينهما تاريخيًا لم تنقطع، إنما -أيضًا- رسخت الوعي التقليدي الديني، والطائفي أو القومي أحيانا، وهو ما صبّ ضد عملية التغيير.

المحصلة أنّ القوى الحاملة لمشروع التغيير، تتخلّص بقوى سياسية تعيش في عصر غير عصرها، وقوى اجتماعية تنتمي كليًا للثورة، إنما بوعي تقليدي، ما جعل مشروع التغيير متعثرا من داخله، لأن الوعي المكوّن في العقول هو من يحدد طبيعة الخطوات على الأرض.

لا يسير التاريخ حتمًا وفق ما نريد، بل هو نتاج قواه الخاصة أيضًا، وليس للثورة “كتالوغ” محدد تسير وفق سطوره، ولكن التاريخ يقول لنا بأن الثورات (على نبلها) لا تعني دائمًا أننا في الطريق الصحيح للتغيير، فالأخير يتحدّد بجملة من الشروط، أهمها ما سبق الحديث عنه، والذي يمكن اختصاره بأنّه محصلة العلاقة بين الوعي المكوّن والفعل الثوري على الأرض، والأخير يتحدد حتمًا بنوعية هذا الوعي، وعليه فإنّ المنجز محدود بحدود وعي الثائرين، ولا يمكن أن يتجاوزه، أي بحدود وعي البنية التحتية للتغيير، وهو ما قد تكون الثورة المصرية أبلغ دليل عليه، فعودة السيسي لم تكن لتكون لولا سعي الإخوان للهمينة على السلطة، (وهو سلوك يعكس وعيهم)، وسلوك مضاد من القوى الثورية بالاصطفاف مع العسكر ضد الإخوان، (وهو أيضًا سلوك يعكس وعيهم أيضًا)، فكانت محصلة البنية التحتية للتغيير هذا الإنجاز السيساوي! على الرغم من أنّ ما تريده الجماهير شيء آخر تمامًا، لأنّ الشعار شيء والقدرة على تحقيق الشعار وإنجازه شيء آخر، فالأخير يتطلب امتلاك الوعي والخبرة والقوة اللازمة التي يجب أن تحوزها قوى البنية التحتية للتغيير لتحقق مشروعها.




المصدر