ثلاثيّةٌ ليست للمُتعة.. إنّها الألم!

5 ديسمبر، 2016

عمار ديوب

رواية “ثلاثيّةٌ ليست للمُتعة”، تسردُ حكاية مولانا أبي بصير؛ الرجل الذي ولد “تقمصًا ربما” في أزمنة متعددة، فهو تارةً رجلَ دينٍ أعمى، وهذا في الجزء الأول، ويتناولُ مرحلة سيطرة المماليك على دمشق، وفي مرحلة ثانية يُصبح الصحافيَّ الذي يناهض الاحتلال العثماني، ويساهم في رحيله، وفي المرحلة الثالثة، وهي التي تشغل بالَ المؤلف -كما يبدو- أو هي المخفيَّ “الأعظم”، يصبح أبو بصير الحاج وسكي، ويبدو أنَّ الكاتب خَشيَ المساءلة الأمنيّة، إن ربط بين ولادات أبو بصير، حيث كان الرجل يقول الحق دائمًا، ففي وجهه الأوّل كان فقيهًا وقاضيًا، وفي الثاني باحثًا ومفكّرًا، وفي الثالث ساخرًا؛ وفي هذا يقول ماركس: “الحدثُ حينما يقع يكون مأساةً في المرة الأولى وفي الثانية يُصبح مهزلةً”. أبو بصير يبدو -ولكثرة الفشل المتراكم في تاريخنا- ساخرًا.

الروايةُ مُقطعةٌ إلى ثلاثة أجزاء، وتُغطي ثلاث مراحلٍ تاريخيّة. مثّل الكاتب حياة دمشق في الجزء الأول وفق مستويين، فهناك مستوى الحكم، ومستوى حياة العاديين، في الأول يتحدّث عن الانقلابات، ولا سيما الانقلاب الأخير الذي فَشِلَ فيه قاضي عسكر وأرُسل رأسه –أخيرًا- إلى القاهرة، وأعاد “الأتابك” لاحقًا السيطرة على دمشق، وانتهى ذلك بسجدِ القضاة الأربعة للسلطان مجددًا والدعاء له؛ وأمّا الشعب فكان مُبعدًا ومُستكينًا، وتلمُسهِ للسياسة كان نادرًا، ولم يكن له دور في الانقلاب وسواه.

نجح المؤلف في تصوير حياة دمشق، حيث أبو بصير الفقيه والقاضي يُسجنُ مع المئات، وذلك لعدم معرفتهم بحالة الطوارئ المفروضة، بسبب مجيء السلطان إلى دمشق، وهناك إبراهيم التاجر ومؤذن الجامع الأموي، وهناك العاملون في الصيد والدراويش وباعة التمر الهندي والتجار، وهناك وهناك. حياة المدينة هذه كانت مفصولة عن حياة الحكم، ولم يكن الحكم “عربيًا” وإسلاميته، وإسلام أكثرية الشعب، كانت سببًا في غيابِ مسألة قومية أو طبقية للصراع ضدّه، وربما أشّرَ الكاتب إلى أنّ سوريّة لم تحظَ بحكمٍ يُمثلُ أهلها منذ القديم وإلى الآن.

في الجزء الثاني، يُكثّفُ المؤلف تفاصيل حياة السوريين وهم (يودعون) بالحرب الاحتلال العثماني، ويتعاونون مع الفرنسيين والبريطانيين للانتهاء من بقاياه، آملين بالاستقلال بقيادة الملك فيصل. وقد شكّل خروج القوات التركية فرصة للفرنسيين؛ لفرض احتلالهم، وهو ما لم يلق مقاومة عسكرية واسعة، وبذلك فرضوا وبالقوة العارية سيطرتهم. لم يتوسع الكاتب في أشكال الصراع ضد الفرنسيين، على العلى الرغم من من بقائها لأكثر من عقدين، ولكنه أوضح وعبر شخصية يوسف، وهو ضابطٌ عربيٌّ مُقالٌ من الجيش التركي، ومعه مجموعة من الضباط والجنود، ولهم علاقة مع أبي بصير، وقد أصبح كاتبًا في هذا الجزء، وتلك العلاقة تمثلُ الربط بين الفكر والعمل العسكري. كانت دمشق حينها تعج بالضباط الأجانب والاستخبارات الأجنبية، كحال شخصيات “جون وزوجته ماري” وماري أقامت علاقة عاطفية مع الضابط العربي (دوخي). حدّد الكاتب روايته في الجزء الثاني بثلاثة أعوام 1917- 1920، أي بين احتلالين، والتي شهدت كثيرًا من الأحلام والأوهام والخيبات، ويبدو أن الكاتب تعاطف مع يُوسف، الشخصيّة الأساسيّة، وكأنّه يقول إنّه يوسف العظمة، ولكن لم يشأ استشهاده مخالفًا التاريخ بذلك. قيمة الأدب في إعادة كتابة التاريخ، وفقًا لمعايير الأدب وحسب؛ فيوسف، وعلى الرغم من دوره المركزي في مناهضة الأتراك، فإن دوره بات محدودًا وهامشيًا ضد الفرنسيين، وفي التاريخ أصبح مجرد بطلٍ استشهد في مواجهة يائسة ضد قوات الاحتلال الفرنسي.

في الجزء الثالث، لدينا شخصيات رئيسة، الحاج وسكي، وكامو، وشخصيات ثانوية كهيام وسنا ولولو وسرى، وهناك المظاهرات ورجال الأمن وآخرين. الحاج وسكي، ليست له علاقات نسائية قطُّ، وكأنّه شخصية خيالية! يصورهُ الكاتب شخصيّة استثنائيّة مُنعزلة وصوفية وساخرة؛ فهو مولانا أبو بصير. المؤلف يريد القول -كما يبدو- أنّ أبا بصير، بوجوهه الثلاثة، لم يكن يومًا منغلقًا وذا عقلية رجعية، وكان دائمًا رافضًا للاحتلال ويُشجع على التحرّر، فهو من ساهم بإخراج الجارية من دمشق، وهي التي قتلت نائب السلطان ونقيب القلعة قيمق بالسم، لصالح قاضي عسكر، وهو من رفض أن يمارس أي ضغط على ابنته “رابعة” زوجة يوسف، وأكمل الأخير ذلك بأن دفعها إلى نزع الحجاب نهائيًا، وهو ذاته الحاج وسكي الذي يحتسي البيرة، ورفاقه لديهم علاقة حب خارج أطار الزواج؛ الحاج وسكي، يخشى من فشلٍ جديدٍ، وكأنّ تاريخنا عبارة عن فشلٍ متراكمٍ، فيودعه ساخرًا.

رفاق الحاج وسكي، انخرطوا في ثورة 2011 باكرًا، وككل شباب التنسيقيات الثورية، اجتمعوا في الحدائق والمقاهي، ولكن الاعتقال المبكر والتعنيف الشديد، أعادهم إلى حياتهم الوظيفية مجددًا، ودفعهم لنقاش تطوراتها نقاشًا رمزيًا. الحاج وسكي كرّر مراتٍ ومراتٍ أن دمشق كابول، وكأنّه يتخوّف من الجهادية. كامو الذي يسكن منزلًا قريبًا من الحجر الأسود، وفي شارع الثلاثين، والذي يعملُ مُدرسًا، ويصله صوت المظاهرات اليومية، يُقرّر المشاركة مجددًا، ويذهب فعلًا، وهنا يُصابُ رفاقه بهلعٍ شديدٍ، يزول حينما يعود، ويجد الجميع بانتظاره في منزله.

لم يتوسع الكاتب في هذا الجانب من نشاطات هذه المجموعة، أي في حياة الشباب السوري، واستطرد كثيرًا في علاقاتهم العاطفية ربما ليتفادى الكلام في السياسة، ربما هي مشكلةُ الكتابة في دمشق، حيث لا متنفسَ في مدينة يَسكنُها الخوف والموت والدمار والأمن.

يتمايزُ الجزء الأول عن الثاني والثالث، في أنّ المؤلف يتكلم عن مرحلة لا تثير الكتابة عنها مشكلات أمنيّةٍ، فكان السرد روائيًا، أي فصَّلَ في حياة المدينة، وليس فيه جملٌ شعريّة أو اختصارات كبيرة باستثناء الصفحات الأخيرة، والتي تؤكد إرسال رأس قاضي عسكر إلى إسطنبول. في الجزء الثاني، هناك سردٌ مفصل عن كيفية شن حملات عسكرية ضد الحاميات التركية، ولكن الكاتب يلجأ كذلك للمقاطع شعرية وكأنّه يهرب من السرد، الذي هو أساسي في العمل الروائي، حيث لا جدوى من سرد حكاية انهيار الأحلام بدولة عربية وباستقلال عن السيطرة الخارجية. في الجزء الثالث، أي الذي يعالج وضع سورية في أثناء الثورة، تكاد تُهيمن الجمل الشعرية والاختصارات وكثرة الانتقالات بين دمشق وحلب والتداخل الحواري بين الشخصيات الثلاثة الأساسية، وربما ذلك كتعويضٍ عن نقاش مشكلات الثورة الممنوعة بإحكامٍ مطلقٍ.

الملّحقُ الشعري في نهاية الرواية، جاء تثقيلًا عليها -على الرغم من أهمية القضايا التي عاجلتها تلك الألواح السبعة- وكأنّ الكاتب أراد أن يعبّر عن أفكاره مرّةً كروايةٍ ومرةً كشعرٍ، وربما هو إغواء الشعر.

الراوية، للشاعر السوري معاذ اللحام، صادرة عن دار التكوين في دمشق 2016.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

5 ديسمبر، 2016