(فيتو) الكراهية وشرعنة سياسة القوة
7 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
جمال الشوفي
ليس لأنه (الفيتو) السادس الروسي في مواجهة كل المحاولات الأممية لوقف سفك الدم السوري، بقرار ملزم دوليًا، وليس لأنه روسي- صيني معًا، لأكثر من مرة في ذلك، بل لأنه يشرعن لغة الكراهية والاستعلاء، لغة القوة والبطش، وتسويقها عالميًا، في زمن تحاول فيه كل الدبلوماسية العالمية، بذل أقصى جهدها لتجنب مواجهات عالمية كبرى، تفتك بالكوكب البشري الذي بات يضيق بسكانه، كما تضيق المدن السورية المحاصرة بسكانها!!
في الخلفية التاريخية
استخدم الاتحاد السوفياتي حق النقض (الفيتو) ما يقارب 80 مرة، بين عامي 1956 و1987، لتنتقل بعدها إلى مرحلة الانحسار والتقوقع في المرحلة الروسية، سوى مرات نادرة، كانت بعد عام 1991، تكاد تُحصى على أصابع اليدين، كان منها ست مرات في إجهاض أي حل سياسي للمسألة السورية، يُوقف نزيفها وموت سكانها وتهجيرهم واقتلاعهم من أراضيهم ومدنهم! آخرها لم يمض عليه شهران في مواجهة مشروع قرار، كانت قد تقدمت به فرنسا لوقف الأعمال العسكرية في حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية لسكانها المحاصرين، واليوم يتلوه استخدام سادس مفرط في الكراهية، ما يعيد للذهن موضوعة الانقسام العالمي داخل منظومة مجلس الأمن، باستخدام حق النقض لطرف ضد الآخر، كخصوم تفاهموا منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة في عُصبتها على تقاسم مناطق النفوذ والسيطرة العالمية بالقوة السياسية، على خلفية انتصارها العسكري في الحرب العالمية الثانية.
(فيتو) روسي- صيني سادس، يقوّض جهد الدول التي سعت من خلف حاجز الدول الكبرى، كبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، صاحبة القرار الذي نُقض بـ (الفيتو) الخامس، أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، من هذا العام وللغرض نفسه، (فيتو) ضد مشروع قدمته وطرحته دول طرفية، لا تُعدّ رئيسة في المعادلة الدولية، هي نيوزلندا ومصر وإسبانيا، وذلك؛ بغية تجنب صدام دبلوماسي جديد من إحداها، على ما يبدو، أي: الدول الكبرى مع روسيا، وجميع القرارات السابقة كانت تسعى لإيقاف الأعمال العسكرية في حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية لسكانها المحاصرين لشهور مضت.
خرق أم مفارقة
في مقالة نشرها مركز “كاتخيون Katehon” في 14/ 10/ 2016، المُعرّف عن نفسه، بوصفه مركزًا يدعو إلى عالم متعدد الأقطاب، بعنوان: المشكلات الجيوبولتيكية وقوانين المدى الكبير والعولمة والمفارقة الروسية. استطرد الكاتب ألكسندر دوغين، والمشبع بفكرة استعادة الهيمنة الأوراسية في عهد الاتحاد السوفياتي، في الشرح المكثّف حول قوانين الاستقلال للدول الوطنية، محددًا شروط اللعبة الدولية فيها، والدور المفارق الذي تلعبه روسيا في خرق نظام العولمة العالمي وحيد القطب، مُنظّرًا لضرورة الهيمنة خارج حدود الدولة ذاتها، وفرض سياستها دوليًا حتى تُعدّ دولة مستقلة.
لا يكتفي دوغين عند هذا الحد، بل يُروج لفكرة أنه في خضم الصراع الأممي حول الدول الضعيفة يمكن لدولة عظمى أن تستغني عن رشوة الدول الصغرى، في حال عدم وجود منافس دولي كبير عالميًا، لتغدو ممارسة القوة المفتتة الوسيلة الوحيدة للسيطرة والهيمنة.
في هذه النقطة بالذات، يتكثف ويبرز للعلن الأنموذج الجديد لروسيا في استعادة دورها العالمي، في عالم تفترض فيه نفسها دولة عظمى، وتفرض شروطها على كل لاعبيه العالميين. فمن جهة، تمارس كل أشكال العنف والجرائم الحربية بحق المدنيين السوريين؛ بحجة محاربة الإرهاب، الحجة نفسها التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية -يومًا- في اجتياح العراق، ومن جهة أخرى، تتلاعب بالدبلوماسية العالمية في التملص من التزاماتها الدولية في مسارات الحل السياسي المفترض، من خلال قرارات جنيف في تشكيل هيئة حكم انتقالية، وفي الجانب الآخر تمارس حق شرعنتها سياسة القوة أساسًا بعد الحرب العالمية الثانية، في نسف كل الجهد العالمي لحق تقرير مصائر الأمم، والمحافظة على الاستقرار والسلم العالمي، ما يذكرنا بالفيتو الأميركي في مسائل القضية الفلسطينية في السنين السابقة التي مرت.
هنا يبرز السؤال المهم في سياق المسألة السورية، ودمها المهدور على هذا المذبح، وهو ذاته في سياق الحرب العالمية المضمرة بين قوى دولية كبرى: هل روسيا تفرض شروط وجودها مجددًا في خرق منظومة العولمة، وحيدة القطب الأميركية، أم تندرج في سياقها من بوابة القوة ذاتها التي فرضتها الولايات المتحدة نفسها؟ وتبدو الإجابة عن هذا السؤال متسرعة قليلًا اليوم، ولا سيما أن السياسة الدولية، مع فوز ترامب، الجمهوري المتشدد للنزعة الأميركية والهيمنة الاقتصادية؛ ليخلف أوباما في البيت الأبيض، لم تتضح بعد من جانب، ومن جانب آخر، تبدو للعلن واضحةً جميع مواقع الضعف الروسية في قدرتها على استعادة موقعها الجيوبولتيكي العالمي من خلال البوابة السورية، فهي، مع أنها تحاول بكل الوسائل المتاحة بين يديها من قوة مفرطة في مواجهة غير متكافئة عسكريًا، وحقوق نقض كاملة الصلاحية، تفاوض المعارضة المسلحة السورية في تركيا؛ بغية الوصول إلى اتفاق خارج أروقة الأمم المتحدة، تبرز فيه للعلن بوصفها راعية سلام، لا بوصفها طرفًا حربيًا مستقلًا ذاتيًا، خاصة وقد اتضحت هشاشتها العسكرية مع سقوط ثاني طائرة حربية لها في أثناء عودتها إلى البحر المتوسط، وأيضًا من عدم قدرتها على تحقيق حسم عسكري في حلب، إلا عبر الإبادة الجماعية لسكان حلب الشرقية، وليس -فحسب- تراوغ تركيا في عدم دخولها مدينة الباب القريبة من حدود ممارسة سطوتها العسكرية، ولازال حاضرًا في ذهنها موضوع إسقاط طائرتها، بداية العام الحالي. ما يحيل الدور الروسي إلى محاولة فرض وجود لها في المعادلة العالمية، وحيدة القطب، وفق مفهوماتها ذاتها، القائمة على السطوة والقوة المفرطة، وضمن هذه المنظومة فحسب، مع غياب تام لأي مواجهة محتملة عسكريًا مع أي قطب دولي آخر.
كان يمكن للتحالف الصيني- الروسي في منظومة “بريكس” أن يشكّل مفارقة دولية في منظومة العولمة، لو أن روسيا- بوتين حاولت أن تبقى كما كان الاتحاد السوفياتي -نسبيًا- في سابق عهدها، دولة “تنتصر” لحقوق الدول التي تحاول بلعها الولايات المتحدة، على أقل تقدير، وكان من الممكن لروسيا أن تخسر اشمئزاز واستهجان العالم الإنساني لها، وتكسب تعاطف الدول الصغيرة، لو أنها انتصرت لحقوق هذه الدول في تقرير مصيرها، لكنها أرادت، وبعنجهية الكراهية، أن تكسب لنفسها موقعًا عالميًا في الخارطة الدولية، على حساب دماء الشعوب وحقوقها في الاستقلال وتقرير مصيرها. فالمفارقة الروسية الوحيدة -في هذا السياق- هي خرقها لجميع الأعراف الدولية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لا بل تكريس تام لهيمنة البطش والقوة، وسياسة اللعب على حبال المفهومات وخلطها، وتزييف القوانين الدولية؛ مستغلة غياب منافس حقيقي لها -إلى اليوم- في المنطقة.
الكراهية الروسية -هذه- سوف لن تتوقف عند حدود الفيتو الروسي السادس، أو السابع، بل يبدو أنها ستتمدد في أرجاء العالم الذي كلما حاول تجنب صدام مباشر معها، وجدها تعيده هي بيديها للتداول، فخسارتها لموقعها في “مجلس حقوق الإنسان العالمي” لم يُثنها -إلى اليوم- عن الاستثمار في الدم السوري، مولغة به حتى الرمق الأخير، ما بات يهدد المنطقة برمتها بأتون حرب كبرى، فإن كان قوس المصالح الدولية يذهب إلى تجنب المواجهات العسكرية الكبرى المباشرة، مذ دشنها غورباتشوف في إيطاليا عام 1991، الجميع في مركب واحد، يُسمح اللعب على متنه، ولا يُسمح بثقبه، إلا أنه يفتح المجال واسعًا لخطر ترويج وشرعنة البطش العالمي في مناطق استفراد لدولة ذات بطش دون غيرها، من جهة، ويزيد في أمد المسألة السورية، ويبطل كل حلولها المرجوة ويدخلها، وهي التي لم تخرج منه بعد، في ظلام أشد حلكة من حيث القتل والتهجير الممنهج اليومي.
ليبقى سؤال الكراهية سؤالًا مقززًا للنفس البشرية، ولأقل درجاتها إنسانية، ما لم تبصر النور -بعد- قوى السياسة الناعمة في استيعاب التغول الروسي الفاضح، وتطرح على طاولة الخيارات الممكنة إحدى قضيتين: إما إيقاف العمل بحق النقض (الفيتو)، أو تغيير صيغة استخدامه، ما يستلزم تغيير قواعد اللعبة العالمية في هيئة الأمم المتحدة، وهذا مسار طويل الأمد، وربما لن يحدث، إلا إذا وجد خيار آخر، أو معادل عسكري فاعل في المنطقة، يجعل روسيا تعود إلى حسابات التوازن العسكري مجددًا.. حينئذ، ولعقود مقبلة، ستبقى روسيا على رأس الدول راعية الكراهية والمسوقة لها.
[sociallocker] [/sociallocker]