أحلام في سن اليأس
9 ديسمبر، 2016
إبراهيم الزيدي
أكتب، وأعرف أن ما أكتبه لا يشبه ما حدث في فيلم Message in a Bottle، فهو قد يصل إلى سورية التي بلغت سن الرشد في غيابنا، إلا أنها لم تعد تكترث للرسائل العاطفية؛ وقد يتحول إلى خبر يستوقف القراء، ويلفت عنايتهم إلى ذلك الشعب الذي يدفع فاتورة انتقال العالم إلى القرن الواحد والعشرين، بآليات التدمير ما بعد الحداثوية!! حيث لم يعد في سورية وقت للأموات؛ كي يذهبوا إلى المقابر!!
لطالما هناك من استعاد حقه في السلاح، أريد أن أستعيد حقي في الكتابة، في الأسئلة المبصرة، قبل أن تصبح الأجوبة عمياء، ونشيّع الأحلام إلى مثواها الأخير.
أريد أن أكتب تلك المدينة التي فقدتُ احتمالات الإياب منها، تلك المدينة التي ما فتئت تجتاحني كالرعشة التي تسبق سقوط الدمعة الأولى من العين، تلك المدينة التي تتناهبها الخرائط، والتصريحات. لم أعد أحتمل برد الذكريات، وأرق الحنين، وهذا العمر الذي ضاع بين عقارب ساعة لم يحملها معصمي، وقلبي بات كقميص مشرعة أكمامه الفارغة على حبل غسيل.
حين سجّل “ليونيل مسّي” أربعة أهداف في مرمى أرسنال، قال أرسين فينغر “المدير التنفيذي لنادي أرسنال”: إن الطريقة الوحيدة لإيقاف “ميسيّ” هي: إطلاق النار عليه. وكذلك كانت حالي حين تملكتني الرغبة بزيارة الرقة.
فتبعت العابرين على هواجسهم إلى الكراج، بعد أن فقدت الأمل باقتفاء أثر السعادة بعيدًا عنها. لم أكن وحدي آنذاك، كنت أنا وخوفي، ذلك الرفيق الذي لازمني، ولم يره أحد. لبثت مليًّا أمام باب البولمان المشرع للمسافرين، أعبُّ دخان سيجارتي بنهم الحرمان، لم يكن ثمة حقيبة تتسع للشوق والخوف معًا، فأنا أكثر من مشتاق، لأكثر من إنسان، في أكثر من مكان، وأكثر من خائف، على أكثر من إنسان، في أكثر من مكان.
قبل أن تدق ساعة الانطلاق، رأيت امرأة قد تجاوزت العقد الخامس من عمرها، تطالع وجوه الركاب، وحين تحرك البولمان، كان معاون الشوفير يرجوها أن تبتعد عن الباب، وهي تمدّ إليه يدها بالنقود، وترجوه أن يقلها معه، وهو يقول لها: يا خالة، إذا لم يكن لديك بطاقة شخصية، لا نستطيع أن نسمح لك بالسفر معنا، فجلست مهدودة على الأرض، قبالة باب البولمان، الذي تحرك قبل أن يُغلق، مرّ ذلك المشهد أمامي، كما يمرّ أمام مصور محترف، يحاول ضبط عدسته على الزاوية المُثلى للمشهد، قبل أن تملأ الدموع عينيه. فقرفصت بجوارها، ورحت أراقب عينيها وهي تشيّع البولمان الذي غادرها. أخرجت علبة سجائري التي لم يبق فيها سوى عدد قليل من اللفافات، وقدمت لها واحدة، إذ أن غالبية النساء في الرقة، وخاصة المتقدمات في السن، هن مدخنات، فتقبلتها مني بصمت؛ ما شجعني على متابعة التقرب من قصتها التي هي قصة كل الأمهات “الرقاويات” اللواتي فقدن علاقة الأمومة بالمكان، وبأشيائهن أيضًا. فالأمهات “الرقاويات” تمتدّ أمومتهن إلى ما حولهن، ولهذا؛ فإن اللواتي غادرن الرقة، صارت أمومتهن تؤلمهن.
مرّ بالقرب منّا بائع القهوة المتجول، فابتعت فنجانين، وافترشت الأرض بجانبها، ورحت أخفف عنها بكلمات ليس لها رصيد في الاستثمارات العاطفية؛ لأعرف أنها من أحد أحياء الرقة، يُسمى “حي المشلب”، وهذا الحي هو الامتداد الشرقي لمدينة الرقة، وقد تعرض لكثير من الغارات الجوية.
لديها أربع بنات متزوجات، وثلاث أولاد، كبيرهم مهندس زراعي غادر الرقة إلى دمشق، وأقام مع عائلته هناك، والثاني معلم مدرسة، غادر الرقة إلى تركيا، على أمل أن ينفتح له باب الهجرة إلى أوروبا، وهو ما زال عازبًا، وثالثهم كان متفرغًا للعمل في الأرض، ومتابعة شؤونها، إضافة إلى الماشية التي لم يكن لديهم كثير منها، وتسمى “المنيحة”، وتعني مجموعة قليلة من الأغنام، تربى في البيت، لتغطية حاجة البيت من اللبن، ومشتقاته؛ إذ إن الناس في محافظة الرقة يستهلكون كثيرًا من اللبن والحليب والسمن العربي والجبن البلدي. ولهذا ترى أن أغلبية عائلات الريف الميسورة لديها “منيحة”.
والمولود الأخير -في لهجة أهل الرقة- يسمى “القعدة”، أي المولود التي تقعد بعده النساء عن الولادة، وغالبًا ما تقيم الأمهات حين يتقدمن في العمر عند “القعدة”، وتلفظ القاف جيمًا مصرية، و”قعدتها” اسمه صالح، وقد أخفى بطاقتها الشخصية مذ عرف رغبتها بالسفر إلى الرقة، إذ لا سبيل إلى منعها من السفر، إلاّ بهذه الطريقة. وهي كلما سنحت لها الفرصة، تقوم بتلك المحاولة اليائسة، حتى أصبح مكتب السفريات يعرفها، وسائقو البولمانات ومعاونوهم أيضًا. قلت لها من حقه أن يخاف عليها، فالرقة لم تعد كما كانت، ثمة قصف تتعرض له يوميًا، فأجابتني بلهجتها “الرقاوية” المحببة إلى نفسي: “محد يموت إلا بيومو”، أي أن الموت مقدّر، ولا سبيل إلى تأخيره أو تقديمه. وصارت تهذي ببيتها هناك، وتلوم نفسها على مغادرته، وهذا ليس غريبًا عليّ، فالبيت في ريف الرقة تصنعه المرأة، لذلك ترى الرجل يقول عن زوجته “راعية البيت”، وليس فلانة أو أم فلان، فالبيت الريفي ليس غرفة نوم، وغرفة ضيوف يبتاعهما رب الأسرة من السوق، بل مجموعة ضخمة من الفرش واللحف، وكلها من الصوف، إضافة للمخدات الكبيرة (الوسائد)، وتوضع في صدر الغرفة، وتسمى “النضد” (بالظاء)، إضافة للبسط المصنوعة من الصوف أيضًا، ومجموع عفش البيت يسمى “الوهد”. وهذا لا يكتمل في يوم وليلة، فهو نتيجة لإدارة المرأة لبيتها، لذلك؛ كانت المرأة الريفية شديدة التعلق به، لأنه من تعبها كما يقولون. في هذه الأثناء حضر “قعدتها” صالح، كان شابًا لطيفًا، رأيت في عينيه انكسارًا، واعتذارًا، وكأنهما تقولان لمن ينظر إليه، إنها والدتي. جلس قبالتها، وأمسك يديها بيديه الاثنتين، وصار يقبلهما، وهو يتحدث إليها بصوت خفيض، وهي تقول له: “والله ما أسامحك”، وهو يبتسم بتلك العينين المنكسرتين، ويعدها أنه سيرافقها في رحلة إلى الرقة قريبًا، “بس هالكم يوم اصبري عليّ” وترد عليه: “صارلي خمس تشهر استناك”. فما كان منّي إلا أن تدخلت بينهما، مؤازرًا له، فلما سمع لهجتي، استراحت قسمات وجهه، فوجدتني أقترب من الحكاية أكثر. كان صالح أبًا لطفل وحيد، قدم إلى اللاذقية برفقة أسرته الصغيرة، ووالدته، لم يستطع أن يحمل معه متاع بيته في الرقة، فاستأجر شقة مفروشة. في البداية، لم يكن يبحث عن عمل، كان يعتقد أنه سيعود إلى الرقة قريبًا، إلا أن الأحداث المتلاحقة خذلت أحلامه بالعودة. سألته لماذا لا يريد لوالدته أن تعود إلى الرقة، طالما هناك كثير من الناس، ما زالت تقيم هناك، وأن لديه أخوات وأقارب فيها، فأخبرني أن والدته تشكو من نقص تروية في القلب، وأن إحدى أخواته قضت بغارة جوية، هي وابنها الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، وأمه لا تعلم بذلك، ويعتقد أن صحتها لا تحتمل سماع ذلك الخبر، والبيت الذي ما انفكت تهذي به، لم يبق منه شيء، بعد أن انهارت بعض جدرانه بفعل القصف، وأصبح عرضة للسرقة، كحال كل البيوت المهجورة. واستأذن مني وغادر، هو ووالدته، وتركني “مجعلكًا” كالورق المقوى، لا أعرف ما الذي عليّ أن أقوله، أو أفعله.
[sociallocker] [/sociallocker]