ثورة سورية وليست مجرد عاصفة


توفيق الحلاق

حدثتني المغنية سهام إبراهيم ذات لقاء قديم؛ فقالت: كنت قد أنهيت وصلتي الغنائية للساهرين من السوريين في جنيف، ووقفت بينهم لنتعارف أكثر، سألني أحدهم: “كيف لقيتيلنا سويسرا؟ متل الشام ولا أحلى؟” أجبته ببراءة: “ما في أحلى من الشام، لو كان في اهتمام متل ما في سويسرا بالنظام والترتيب والنضافة واحترام المواطن”، وحين انفض الناس أقبل شخص نحوي وقال: “شو ست سهام مو عاجبتك سورية؟ لاتخافي!! أنا بشتغل هون بالسفارة” أجبته وأنا خائفة: “ليش شو قلت أنا؟ قلت الشام أحلى لو… ما قلت مو عاجبتني”، فقال مُلوّحًا بالوعيد: “معليش هالمرة رح مرّقلك ياها بس تاني مرة انتبهي لكلامك”.

هذه القصة تختصر العلاقة بين نظام الحكم في سورية وبين المواطنين السوريين، وهي واحدة من ملايين القصص المشابهة حدثت ربما لكل شخص سوري في الداخل والخارج. يكفي أن تُعبّر عن شعورك بالظلم حتى تضعك المخابرات تحت المراقبة، وتقفل دونك أبواب الرزق، كما حدث لي عندما التقيت أسماء الأسد وقلت لها: “وزير الإعلام وإدارة التلفزيون أوقفوا برنامج ابن البلد دون مبرر، أشعر أنني مظلوم”، ارتعدت فرائصها، ورددت ورائي كلمة مظلوم ثلاث مرات، وكأني شتمت زوجها الرئيس. بعدها مُنعت من العمل في وسائل الإعلام العامة والخاصة نهائيًا.

لم تك مشكلة الشعب السوري في الأساس مادية أو خدمية، على الرغم من ضغطهما. بل كانت لديه حاجة ملحة ليشعر بكرامته، ولديه عطش قديم للحرية.

ثمة فتاة في الخامس عشرة من عمرها، مسحت السبورة قبل أن تصل معلمة صفها، وهي ربما لم تنتبه إلى أنها كانت تمسح عبارة: قائدنا إلى الأبد حافظ الأسد. كان على الطفلة وأهلها أن يُراجعوا فروع الأمن المختلفة، ويتلقّوا الاتهامات والشتائم والضرب لأكثر من عام، قبل أن يتدخل مسؤول مرتشٍ ليفك أسرهم.

بنى حافظ الأسد حكمه معتمدًا على إرهاب الدولة، بادئًا في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 ذلك اليوم الذي أطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية المباركة”، باعتقال وتصفية من عارضوا أداءه المشبوه في حرب حزيران/ يونيو 1967 مع إسرائيل، وفي تدخل الجيش السوري في أيلول/ سبتمبر 1970، وفي أحداث الأردن الدموية بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، بما اشتهر بـ “أيلول الأسود”، وكان من بين هؤلاء نور الدين الأتاسي وصلاح جديد، إضافة إلى كبار الشخصيات في الحزب والدولة والضباط في الجيش.

اعتمد الأسد في تثبت سلطته الحزبية على رفاقه المُقرّبين الذين أيدوا انقلابه، أمثال مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وعبد الله الأحمر، وفي بسط سلطته العسكرية على الصف الثاني من ضباط طائفته، بعدما اعتقل وسرح مئات الضباط الأمراء، وهمش الباقين، وبذلك غيّب معظم الضباط القادة الذين ينتمون إلى الطوائف الأخرى، وبصورة خاصة “الطائفة” السنية، ووسّع ألوية سرايا الدفاع التي أنشأها محمد عمران في إثر انقلاب 1963، ووضعها تحت قيادة شقيقه الأصغر، رفعت الأسد، وأطلق يده في تثبيت سلطته بالعنف المفرط ضد أي نشاط تشتم منه رائحة التذمر، ومثال مجزرة سجن تدمر كافٍ للدلالة على نوع ذلك العنف السادي عندما أرسل مجموعة من ضباطه الأكثر دموية في ليل 26 و27 حزيران/ يونيو 1980، فأيقظوا  المعتقلين، وفتحوا عليهم نيران رشاشاتهم وهم محاصرون داخل جدران السجن، فقتلوا أكثر من ألف سجين، رفعت الأسد هذا سيطمح لاحقًا للجلوس مكان حافظ الأسد، فهو يقود سرايا الدفاع الأقوى والأكبر بين فرق الجيش والمكلفة -أصلًا- بحماية أخيه؛ ما جعله يعتقد أنه الأولى بالزعامة، أو في الخلافة على الأقل.

في كانون الثاني/ يناير 1983، كانت فرصته الذهبية عندما أصيب شقيقه حافظ بغيبوبة، نُقل في إثرها إلى غرفة العناية المشددة في مستشفى الشامي؛ فاستغل فراغ السلطة المركّزة في شخص أخيه، واستطاع إقناع بعض كبار الضباط من طائفته الطامحين إلى السلطة بمؤازرته، وكاد ينتصر، لولا أن حافظ الأسد استنجد بوزير دفاعه وصديق عمره، مصطفى طلاس، الذي روى قصة مواجهته لانقلاب رفعت الأسد، بأن حشد لها كل فرق الجيش ومخابراته وسرايا الصراع والوحدات الخاصة، بعدما أعطاه حافظ الأسد الضوء الأخضر؛ ليكون الناطق باسمه والآمر بأمره.

تبدو سورية الوطن والدولة في ذلك الوقت مجرد أرضٍ تحوي مزرعةً للأفيون، وحقولًا من النفط، ومركزًا تجاريًا للمجوهرات، وتتقاتل على امتلاكها عصابتان مسلحتان يقودهما الأسدان حافظ ورفعت. في تلك القصة التي انتصرت فيها عصابة حافظ الأسد لن تقرأ فيها مرة واحدة كلمة شعب، بل وردت فيها مئات الأسماء لضباط وفرق عسكرية وأمنية فحسب، إذ كان حافظ الأسد ينظر إلى الشعب السوري، وكأنه كائنات بهيمية، مجرد أنواع من الحيوانات متفاوتة الذكاء، وغالبًا ما يتعامل مع أكثريته كما مربي الدجاج، ولقد عرض المخرج السوري الراحل، عمر أميرالاي، هذه النظرة الدونية من السلطة نحو الشعب في فيلمه المعنون بالاسم نفسه (الدجاج)، والذي رَمَزَ للشعب بدجاج حقيقي يعيش في مفرخة، لا تتعدى فيها وظيفته إنتاج البيض والصيصان، والذهاب مشويًا إلى الموائد.

لقد تخلّص حافظ الأسد من خصومه الذين انشقوا عن عصابته، أو أولئك الذين عبّروا عن قلقهم تجاه مستقبل الحزب والدولة، فقتلهم ببطء وساديّة، أو أبعدهم كما فعل مع شقيقه رفعت، وصنوه في الحزب والجيش صلاح جديد، ومن قبل رفيقي دربه في الحزب عبد الله الأحمد، وعبد الكريم الجندي، وسواهم من القادة والمسؤولين الكبار.

كل نشاط ثقافي أو اجتماعي أو رياضي أو إعلامي، يجب أن يتم أو لا يتم، وفق ما تراه أجهزة الأمن، بما في ذلك البرامج التلفزيونية والصحف والأفلام والمسرحيات؛ وحتى حفلات الأعراس، وبأوامر مباشرة من أجهزة الأمن؛ فإن صور الرئيس يجب أن تحتل كل جدار على طول البلاد وعرضها، بل وشبابيك السيارات والمحلات التجارية والأكشاك الخشبية.

قانون الطوارئ الذي استمر العمل به أربعين عامًا، والذي يُتيح لأي فرع أمن اقتحام المنازل والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، وأي مؤسسة عامة أو خاصة، والعبث بحياة الناس كيفما يريدون، لم يتوقف العمل به أكثر من بضعة أشهر، ليعود في حلة أكثر سوادًا من قبل في عهد الوريث بشار الأسد، الذي لم تُشكّل أناقته وحديثه المُنمّق سوى مظهر البديل الشاب عن الراحل الشايب، فقد حافظ على نهج والده رئيسًا لعصابة دموية، يفتك بأقرب الناس إليه لمجرد الشبهة، ويتعامل مع الشعب على أنه قطيع أغنام في أحسن الأحوال.

كانت أسباب الثورة أكثر من أن تُحصى، وهي نمت وكبرت واتقدت في عروق السوريين، وكانت تنتظر من يبدأها أولًا وكيف، لم تك أبدًا لأسباب اقتصادية أو خدمية، على الرغم من ضغطهما الهائل، بل كانت نتيجة لقمع الحريات، ولسياسات الهيمنة والإقصاء والطائفية وإرهاب دولة العصابة والفساد، الذي طال مفاصل العيش ومفرداته، لقد كانت ثورة، ولم تك مجرد عاصفة.




المصدر