الدراما في الحياة والإبداع
14 ديسمبر، 2016
غسان الجباعي
كتبت دراسات كثيرة، وربما مجلدات عن الدراما؛ تعريفها، نشأتها، ماهيتها، وظيفتها، وطبيعتها… بوصفها ركنًا من أركان الحياة وسليقتها؛ قبل أن تكون حجر الأساس في فلسفة الفن والإبداع.
بعضهم يقول ببساطة: إن الدراما هي المسرحية “بالإنكليزية”، وبعضهم يعدّها مجموعة من الأحداث المأسوية المتلاحقة التي يعيشها فرد أو جماعة أو بلد. ويدعي آخرون أنها مفهوم جديد جاء على أنقاض التراجيديا والكوميديا الخالصتين، ونشأ في عصر التنوير (ديدرو)، بعد أن تراجع قانون الوحدات الثلاث الأرسطي الصارم، على يدي شكسبير وأمثاله من المجددين، وجرى تحديثه في العصور اللاحقة (تشيخوف، إبسن، سترندبيرغ). كما بتنا نسمع في العصر الراهن مصطلحات مثل: نص درامي، ومسلسل درامي، وقصة درامية، وشخصية درامية، و”دراماتورغ”، ومنسق درامي…
لا شك في أن الدراما موجودة في كل إبداع، وهي موجودة حتى في الشعر والموسيقا والأغنية والرقصة واللوحة والمنحوتة والعمارة؛ اي أنها موجودة في الكلمة والصورة والصوت، وهي – قبل ذلك- موجودة -أيضًا- في الوعي واللاوعي، وفي الجسد والرغبات ودوافع النفس البشرية المتناقضة.
لكن ﻻ بأس أن نتوخى الدقة، ونتعرف إلى معنى هذه الكلمة وجوهرها، بوصفها ركنًا من أركان الإبداع، قبل وصفها أو توصيف الأشياء بها. فالدراما كلمة يونانية تعني الفعل، وهي “فعل نبيل تام”، كما وردت عند أرسطو في كتابه (فن الشعر) الذي بقي قرونًا طويلة المرجعَ الأساس لفن التمثيل. والمقصود بالفعل -هنا- الفعل المسرحي التراجيدي تحديدًا، لكن تعريف الفعل في العصر الحديث بات أكثر دقة وشمولًا ووضوحًا، فهو: “مجموع السلوكات (الفزيو/ سيكولوجية) التي تقود إلى هدف”. فهو ليس محض سلوك جسدي أو نفسي فحسب، يتفاعل بمعزل عن الجسد، وهو –أيضًا ودائمًا- يقود –بالضرورة- إلى هدف محدد؛ لتحقيق رغبة محددة، يحركها دافع قوي، مادي أو معنوي؛ وهذا يعني أن الفعل يمكن أن يكون مدركًا، أو نابعًا من مجاهل اللاوعي. لكن السلوك البشري -في الحياة كما في المسرح- قلما يفصح عن الهدف، ويكون السلوك مجرد غطاء لإخفاء حقيقته، وهو ما يحوله إلى فعل درامي. فالطالب الجامعي المعجب بزميلته –مثلًا- لا يذهب إليها ويعبّر عن إعجابه مباشرة؛ بل يطلب منها دفترها؛ كي ينقل المحاضرة التي فاتته.! إنه -هنا- لا يكذب، بل يختار وسيلة ذكية أو حجة ملائمة لتحقيق هدفه! وهو يخفي النيّة من سلوكه (فعله) هذا، محاولًا أن يستكشف ردود فعل زميلته. كما تقوم هي -أيضًا- بمحاولة استكشاف نيّته ومعنى سلوكه؛ منتبهة إلى اضطراب صوته وبريق عينيه ورجفة أصابعه التي قد تشي بهدفه الحقيقي، ما يشدّ المراقب أو المشاهد، ويدفعه -بدوره- إلى متابعة ما يحدث وفهمه.
لو كان هدف هذا الطالب هو الحصول على دفترها فحسب، وطلب منها ذلك؛ أي لو تطابق هدفه مع سلوكه، لانغلقت دائرة الفعل (اكتملت)، ولما كان فعلًا دراميًا. وإذا كانت الأفعال العادية موجودة –عمليًا- في الحياة، فليس من حقها أن توجد في الإبداع؛ لأنها ستكون عادية غير مثيرة، ولا قابلة للتطور والتصعيد، وبالتالي؛ غير قابلة للسرد والمعنى. لكن لا بد من الإشارة -هنا- إلى أن الدراما الحديثة بدأت في العقود الأخيرة تلتفت إلى الأفعال العادية، وتعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا، وبخاصة تلك الأفعال المثيرة من حيث الشكل؛ أو لنقل من حيث طبيعتها وطريقة أدائها. قد يطلب منك مخبول سيجارة أو نقودًا (وهو لا يريد غير ذلك)، وقد تطلب منك فقيرة أو طفل رغيفَ خبز، بطريقة جميلة جدًا، ومثيرة للانتباه والإعجاب والتأمل، لكن الحامل الأساس لتك الأفعال العادية مرتبط -في حالة أو بأخرى- بدراما الحياة والتداعيات التي يستحضرها هذا الفعل الذي يبدو لنا –للوهلة الأولى- أنه عادي ومغلق.
[sociallocker] [/sociallocker]