المعركة المقبلة في إدلب أو دوما


الحياة

تراكمت أسباب محلية وإقليمية ودولية أدت إلى «تراجع سريع» لفصائل إسلامية ومعارضة سورية إلى جيب صغير بمساحة تُقدّر بأربعة كيلومترات مربعة جنوب شرقي حلب تضم بضعة آلاف مقاتل وعشرات آلاف المدنيين المحاصرين، مع «تقاسم أبنية» مع القوات النظامية وحلفائها قرب قلعة حلب التاريخية. لكن السيطرة الكاملة على حلب باتت مسألة وقت وكلفة وترتيبات تخص إخراج المدنيين وربما المقاتلين.
الرغبة المستمرة لدمشق وطهران في استعادة الأحياء الشرقية التي سيطرت عليها المعارضة في 2012، ظهرت مجددًا في بداية العام الحالي، لكن اتفاق وقف العمليات القتالية بين موسكو وواشنطن واستئناف مفاوضات جنيف أدّيا إلى تأجيل التنفيذ العملياتي الذي سرعان ما تجدد مع انهيار اتفاق روسي – أميركي جديد لوقف النار في أيلول (سبتمبر) الماضي. وبحسب معلومات وخبراء يمكن ذكر ستة أسباب أساسية لتفسير ما أوصل إلى انقلاب الميزان العسكري في حلب:

أولًا، الغطاء الأميركي – الروسي: مع وجود خطة لدى الرئيس فلاديمير بوتين لفرض وقائع عسكرية جديدة تتضمن تأمين دمشق (بالسيطرة الكاملة على محيطها عبر التسويات أو التقدم العسكري) وحلب، أكبر مدينتين في «سورية المفيدة»، واحتواء محافظة إدلب قبل تسلم الرئيس دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، اتخذ بوتين من اتصاله الهاتفي مع ترامب لتهنئته بالفوز والاتفاق على «التعاون في مكافحة الإرهاب» في سورية، منصة لإطلاق «معركة حلب».

ثانيًا، خطة عسكرية تتضمن تقاسمًا للأعباء ومدعومة بصور من طائرات استطلاع روسية: وفّر «التفاهم» بين بوتين وترامب في مرحلة انتقالية أميركية، مظلة رئيسية للجيش النظامي و «القوات الرديفة» والميليشيات المدعومة من إيران للمضي قدمًا في الخطة العسكرية المحكمة التي وضعت في دمشق. وتضمنت تكتيكًا عسكريًا جديدًا قام على تقطيع أوصال الأحياء الشرقية التي تبلغ حوالى 25 حيًا و20 حارة في المنطقة القديمة، وكما كانت فصائل المعارضة فاجأت خصومها في آب (أغسطس) بشن معركة فك الحصار عن شرق حلب من جنوب غربي المدينة، فإن القوات النظامية وحلفاءها فاجأت الفصائل بشن «معركة الحسم». فصل شمال شرقي حلب عن جنوبها الشرقي وتقاسم خطوط القتال بين القوات النظامية و «القوات الرديفة». وبات يُنظر إلى المقاتلين الأكراد في حي الشيخ مقصود وشمال حلب «قوة رديفة».

لم يُشن الهجوم من طرف مخيم حندرات ودوار بعيدين باتجاه حي الهلك، بل إن الجيش النظامي الذي تسلم «جبهة» شمال شرقي حلب دخل عبر مساكن هنانو ثم حي الصاخور ما «عزل» أحياء الحيدرية وبستان الباشا والهلك، بالتزامن مع محاصرة جنوب شرقي المدينة من فصائل مدعومة من إيران بينها «حركة النجباء» الشيعية العراقية. ولدى التقدم إلى جنوب شرقي المدينة، كان التكتيك العسكري ذاته يطبق تفصيلًا، وهو عزل الأحياء المحاصرة وقصفها واقتحامها. وكانت أحياء المعارضة تُقضم واحدة بعد الأخرى إلى أن جرى عزل الفصائل في جيب صغير يدافع عنه بشجاعة مقاتلون محليون.

ثالثًا، قلعة حلب: سبق هذا «انهيار سريع» لفصائل معارضة في الأحياء القديمة قرب قلعة حلب. وبات جنود الجيش النظامي ومقاتلو «حزب الله» يسيطرون على ثلاثة أرباع المحيط الدائري للقلعة مع إبقاء ممر متسلسل باتجاه مغاير والمعادي وساحة بزي إلى الجلوم والكلاسة. وفي بعض المناطق هناك «تداخل» أبنية بين الطرفين، كما هي الحال في أقصى جنوب شرقي حلب، مع توقع معركة شوارع في الأحياء المكتظة بعد السيطرة على أحياء الكلاسة والفردوس وبستان القصر وبقاء حي السكري.
رابعًا، الانقسام والتناحر: في مقابل الوحدة والتنسيق بين القوات النظامية وحلفائها على عكس ما حصل في معركة فك الحصار عن حلب قبل أشهر، فإن فصائل المعارضة وتضم بين ستة وثمانية آلاف مقاتل عانت من تناحر وانقسام، كان بينه الخلاف المسلح بين «حركة نور الدين الزنكي» و «تجمع فاستقم»، إضافة إلى هجوم شنته «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقًا) على مقرات لـ «جيش الإسلام» و «فيلق الشام» خلال احتدام المعارك.

ولا شك أن المفاوضات الأميركية – الروسية أو المحادثات في جنيف وبين فصائل معارضة والجيش الروسي في أنقرة إزاء شروط خروج فصائل المعارضة من شرق حلب وإخراج عناصر «النصرة» (هناك خلاف حول العدد بين 300 و900 عنصر)، ساهمت في تعزيز عدم الثقة بين الفصائل وأضعف من فعالية «غرفة عمليات حلب»، خصوصًا في ضوء تبادل الاتهامات عن انسحاب وعدم القتال و«التخوين» وتحول بعض القياديين إلى «أمراء حرب».

خامسًا، «درع الفرات»: ساهمت موافقة فصائل معارضة على إرسال نخبة من مقاتليها إلى عملية «درع الفرات» (تضم حوالى خمسة آلاف مقاتل من «أحرار الشام» و«الجبهة الشامية» و«فيلق الشام» و«الزنكي» وفصائل أخرى) المدعومة من الجيش التركي لإقامة منطقة بمساحة قصوى قدرها خمسة آلاف كيلومتر مربع بعد طرد «داعش» من شمال حلب وعزل الأقاليم الكردية لمنع قيام «كردستان سورية» على حدود تركيا، في إضعاف القدرات القتالية وعدد العناصر البشرية للفصائل في حلب سواء كان جنوب غربي المدينة أو شرقها، إضافة إلى زيادة الفجوة بين هذه الفصائل في «غرفة فتح حلب» و«جيش الفتح» الذي يضم فصائل إسلامية بقيادة «النصرة». وجرى تبادل اتهامات بين «أحرار الشام» و«النصرة» إزاء «شرعية» المشاركة في «درع الفرات»، علمًا أن الحصار فرض على الأحياء الشرقية في منتصف تموز (يوليو)، ما عقّد إرسال إمداد بشري.

سادسًا، تفاهمات روسية – تركية: تزامنت استعادة الجيش النظامي وحلفائه بقيادة روسية شرق حلب مع تقدم «درع الفرات» بقيادة تركية باتجاه مدينة الباب، ما طرح تساؤلات عما إذا كانت هناك صفقة مرنة بين موسكو وأنقرة بالمقايضة بين «المنطقتين السوريتين» عبر اتباع الطرفين منهج «لعبة الشطرنج» بتبادل التنازلات في أجواء عدم ثقة لم تبددها اللقاءات الرسمية بين البلدين. وبين أمثلة عدم الثقة، اتهام أنقرة أمس الجيشين الروسي والسوري بـ «تسهيل» استيلاء «داعش» على أسلحة متطورة ومضادات دروع من ريف حمص، لاستخدامها في معارك الباب ضد الجيش التركي… أو لإغراء ترامب بقتال مشترك لـ «داعش».

«ما بعد حلب»، بحسب محللين، هناك خياران عسكريان: أن تذهب القوات النظامية و «حزب الله» للسيطرة على مدينة دوما في الغوطة الشرقية لدمشق، أو أن تذهب إلى محافظة إدلب التي تقع بين حلب واللاذقية بدءًا من جسر الشغور قرب معاقل النظام غرب البلاد، في وقت تصاعدت أصوات معارضة لـ «الضغط على الفصائل المقاتلة للخروج من المدن واتجاه حرب العصابات في الأرياف» وسط طرح أسئلة عن مدى قدرة القوات النظامية وحلفائها على الإمساك بـ «المناطق المحررة»، خصوصًا بعد استعادة «داعش» لمدينة تدمر الأثرية بسبب تراجع القدرة البشرية للقوات النظامية واحتمال بروز توترات ميدانية مع حلفائها من جهة وبقاء الاحتقان لدى المعارضين واحتمال اتجاههم إلى حض التطرف من جهة ثانية.

(*) كاتب سوري




المصدر