لا تبكِ يا حلب
14 ديسمبر، 2016
الجميع قالوا لنا إنهم أصدقاء، لكن معظم من ساندنا أو قال إنه يقف إلى جانبنا وأغدق علينا بوعود وأمنيات، اكتشفنا متأخرين أنها كانت أحلاماً وردية وكنا ننام في العسل، فالتصريحات والمؤتمرات واللقاءات وكلام الفضائيات التي أطلقها (أعدقاء) الشعب السوري أطاحت بها جميعاً صواريخ طائرات “بوتين” وبراميل “الأسد” وحقد ميليشيات “إيران” وعلى عينك يا تاجر.
بالحديث عن الوعود الخلبية التي أطربت آذان الشعب السوري الحر لا نستثني أحداً، فمع بداية الثورة تحدث الأمريكان عن أيام تفصلنا عن رحيل “الأسد” وزواله عن السلطة هو أمر محسوم، وأصبحنا نعُدّ الأشهر والسنوات ورحلَ كل من وعدنا بذلك وبقي “الأسد”، وأوروبا أتحفتنا باجتماعات ومؤتمرات، وعٌقدت الندوات لترسم لنا طريق بناء دولتنا الجديدة، وكندا كلفت مجموعة لتحدد لنا معالم الطريق نحو الديموقراطية، وارتسمت الخطوط الحمراء والزرقاء والصفراء وأصبح لدينا عمى ألوان واختلطت علينا الخطوط، وبقي فقط لون الدم من يغطي شبكية أعيننا ومفردات ذاكرتنا بعد أن خسرنا أحبتنا وفلذات أكبادنا على طريق الحرية الذي لا نعرف له نهاية حتى الآن ولا نستهدي لميناء الأمل كي نرتاح.
بعد سنوات ست يسأل المواطن السوري الذي خرج باحثاً عن الحرية الغرب: هل نحن قوم لا نستحق الحرية أم أنتم مجموعة من كذبة؟
هل نحن من أضاع الطريق أم أنتم من أطفأتم نور الدرب وأطفأتم معها نور أعيننا؟
هل أخطأنا بأن وثقنا بكم أم أخطأتم باعتمادكم علينا؟
مع نهاية عام 2012 كنا على بعد خطوات من إسقاط عصابة “الأسد” وحرر الجيش السوري الحر معظم الجغرافية السورية وحاصرنا النظام بشريط ساحلي وفي قلب بعض المدن ومنها “حلب”. استنجد بحزب الله فما غيّر بموازين القوى سوى مزيداً من القتل بحق السوريين رافقه المزيد من التصميم والإرادة.
تم الزج بالميليشيات العراقية فما كانت بأفضل ولا أقوى من زعران الضاحية الجنوبية، زجت إيران بمرتزقتها من الباكستان وأفغانستان فما زادها إلا مزيداً من الخسائر، قرار “ملالي طهران” الزج بالحرس الثوري الإيراني ومجرمي “فيلق القدس” لم يكن بخيار أفضل مما سبقه فترنحوا جميعاً أمام ضربات حراك الثورة المسلح، وتدخلت روسيا بقضها وقضيضها فكانت ضربة موجعة للثورة التي أنهكها قتال ثلاث سنوات مع كل زناة هذا العصر ومُجرميه.
مجلس الأمن الذي أغلقه أمير حرب يدعى”بوتين” واعتبر “الفيتو” وسيلة للنيل من مطالب الثورة السورية ما كان لينجح لولا الصمت الغربي والموقف الأمريكي المريب، فامتناع الإدارة الأمريكية وخلال كل الفترة التي سبقت تدخل الاحتلال الروسي عن تزويد فصائل المعارضة السورية بمقومات إسقاط “الأسد” ترك أثره على مفاصل الثورة، والمماطلة والمماحكة والتردد كانت سمة القرارات الأمريكية التي كبلت أيدي أصدقاء الشعب السوري وتركت الأبواب مشرعة لمجرمي طهران وبغداد والضاحية الجنوبية وكل عواصم (القومجة) العربية وأحزاب الانتفاع اللبنانية التي أصبحت فيها الساحة السورية سوق استثمار يدر عليهم المرابح ويستثمرون فيه بدماء أبنائهم وأتباعهم الخراف على مذابح القتل الدائر في الشوارع السورية.
والولايات المتحدة الأمريكية التي غضت الطرف عن انتهاكات إيران لقرارات مجلس الأمن التي تمنعها من إرسال أي قوات أو سلاح أو ذخائر وحتى خبرات فنية خارج الحدود مارست هذا الحظر على بعض الدول العربية والإقليمية التي حاولت مدّ المعارضة بأبسط مقومات الدفاع عن النفس أمام طائرات “الأسد” وكان قرارها منع تزويد المعارضة بأي مضادات جوية تُوقف تلك الطائرات ومن بعدها طائرات “بوتين” عن الفتك بأرواح السوريين، وحتى الخطوط الحمراء التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” ووعد بها الشعب السوري الحر حطمها “الأسد” وتغاضى عنها “أوباما”. لكن هناك خط أحمر واحد فقط لم يتحطم وهو خط “لاءات” السفير الأمريكي الأسبق “روبيرت فورد” الذي قال للمعارضة السياسية السورية مع منتصف عام 2012: لا حظر جوي، ولا سلاح نوعي، ولا تدخل عسكري أمريكي. وبعد كل إجرام العصابات والمرتزقة والميليشيات التي استقدمها “الأسد” بقي المنع سارياً وبقي الدم السوري يسيل وعيون العالم تٌحصي لنا أعداد الشهداء لتتحفنا بعبارات رثاء وشجب وندب وتنديد وامتعاض لا تقدم ولا تغير من واقع الأمر بشيء.
سقطت القصير وأصبحت مرتعاً لحزب الله، وسقطت حمص وأصبح اسمها مدينة “الزهراء” واحتلتها إيران وأسكنت بأقدم أحيائها “بابا عمرو” قتلتها الأفغان وعائلاتهم. وسقطت مدينة الصمود “داريا” فدخلها “الخزعلي” وأصبحت ملاذاً لحركة “النجباء” العراقية، والآن حلب تنتظر مغتصبيها ليصبحوا أصحابها وعلى مرأى من جميع من أتحفنا بوعود لا تٌصرف بمكان.
حلب مدينة العراقة والأصالة؛ حلب مدينة أبو فراس الحمداني وسيف الدولة؛ حلب مدينة التاريخ ومدينة الأدب؛ حلب تٌركت وحيدة وأهلها تٌركوا لقدرهم الحزين.
على مدار الأشهر الست الماضية قاتل رجال “حلب” قتال الأبطال وشقوا الطرق لفك الحصار عنها فكان سيف الإمدادات من يكسر ظهر أبنائها ويوقف زحفهم، وأحياناً قد تكون ساندتهم طائرات من ظننا أنهم حلفاء، ومع ذلك استمر أبناء “حلب” بالقتال والدفاع والاستنزاف حتى ضاقت بهم السبل.
ربع مليون مواطن حلبي تُركوا لمصيرهم والموت يتربص بهم، وضاقت معها خياراتهم على قدر ضيق مساحات جغرافيتهم التي بدأت تتقلص وتتناقص ومعها بدأت رحلة النزوح من غرب إلى شرق ومن شمال إلى جنوب وما استسلموا ولا رفعوا راية بيضاء.
الطائرات الروسية والأسدية جعلت من أجسادهم أشلاء ومن بيوتهم أنقاض ومن فلذات أكبادهم أموات … ولم يستسلموا.
لاحقتهم روسيا وطهران وعصابة الأسد بكل ما حوت مستودعات جيوشهم من سلاح فكانت القنابل الفوسفورية والعنقودية والارتجاجية والحرارية وبقي الحظر على فصائل الثورة, الإرهاب طوق حلب من جهاتها الأربع وأٌعميت عيون الجميع عنهم فيما شاهدوا إرهاب “جبهة النصرة” فقط، وبذريعة النصرة التي لا يزيد تعدادها عن المئات أصدر بوتين والأسد وخامنئي أمراً بإعدام كل أهالي حلب المتواجدون في القسم الشرقي من المدينة.
فرنسا ومن قبلها تركيا ومن بعدها معظم دول الغرب والدول العربية قالوا لنا “حلب” خط أحمر لا تخشوا عليها ومع ذلك تركوا تلك المدينة تُذبح وتُغتصب على يد مجرمي هذا العصر.
قد نكون أخطأنا بعدم توحدنا، وقد نكون أخطأنا بتشتيت جهودنا، وقد نكون أخطأنا باعتمادنا وتوكيل أمرنا لغيرنا، لكنه لم ولن يكون سبباً لهذا التخلي عن أهل حلب.
التاريخ علمنا قصة العجوز التي عادت فوجدت بيتها مهدماً على يد مقتدر أزعجه منظر كوخها الفقير الملاصق لقصره فقالت: ياااا رب أنا لم أكن هنا ألم تكن أنت هنا عندما هدموا بيتي؟؟؟
فجعل الله عاليها سافلها وغار القصر بمن فيه استجابة لدعوة المظلوم التي لا يحجبها عن الله (عز وجل) حجاب.
وأهل حلب يقولون اليوم: يا رب اجتمعت علينا كل القتلة وكل المجرمين؛ يااا رب تمسكنا بحبلك واعتمدنا عليك فلا تردنا خائبين.
حلب اليوم تبكي ليس ضعفاً وليس ندماً وليس ألماً بل تبكي غدراً عمق الجراح فيها.
حلب اليوم أظلمت طرقاتها وغابت لياليها وتخضبت شوارعها بحمرة دماء شبابها وشيبها ونسائها وأطفالها.
حلب تملك اليوم فقط أن تختار طريقة موت أهلها؛ هل يموتون برداً أم حرقاً أم جوعاً؛ هل يموتون بصواريخ طائرات “بوتين” أم يموتون ببراميل حوامات “الأسد”؛ هل يموتون تحت الركام أم يموتون بمعسكرات الاعتقال. فقط تلك هي خياراتهم.
حلب تعلم أن الجميع غدر بها ولا استثناء لأحد لكن حلب لم تحن هامتها ولم تركع لغير الله. حلب اليوم تلملم جراحها وهي تعلم أن القادم هو الأسوأ لكنها تنتظر همة وإصرار وعزيمة من أقسم على أن تبقى حلب عربية وأبية وحمدانية.
حلب تئن بجراح أنهكتها، وبسيوف غدر قطعت أوصالها لكن النار المتقدة في صدرها لن تخبو ولن تنطفئ وغضبها لن يهدأ حتى تعود لأبنائها ويعود لها أهلها. هو ليس حلماً وليس أمنيه هو أمر حتمي طالما أن هناك شاب حر يقول: حلب لن تموت. لا تبكِ يا حلب.
[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]