الصناعيون في سورية يتحولون إلى تجار

20 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016

11 minutes

بلغ مجموع الأموال السورية المهاجرة إلى دول الجوار نحو 22 مليار دولار بعد مضي خمس سنوات على اندلاع الثورة السورية، وذلك حسبما ذكر تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة، ولعل من البديهي جداً أن معظم هذه الأموال تشغل نشاطاً صناعياً أو تجارياً في البلاد المجاورة لسورية، وهذا ما تؤكده الأرقام التي تصدر بشكل دوري سواء من مصر أو تركيا أو الأردن ولبنان.

لكننا هنا نطرح سؤالاً:” لماذا هربت هذه الأموال إلى الخارج ولم تعُدْ إلى الآن رغم وجود مناطق آمنة في سورية محمية وبعيدة عن ساحات الحرب؟ لماذا بعد نحو 6 أعوام لم نسمع إلى هذه اللحظة بمستثمر سوري مغترب واحد أو ممن قاموا بنقل منشآتهم إلى دول الجوار عاد إلى سورية وبدأ بعملية الإنتاج؟ طبعاً الإجابة البديهة ستكون ظروف الحرب وعامل الخوف على اعتبار أن “رأس المال جبان”، ولكن هذه حجة ضعيفة جداً رغم صحتها، فالواقع يشي بأن هناك أسباباً كامنة تعامت عنه حكومة النظام.

لا يمكن إنكار عامل الحرب الذي أدى لهجرة مئات المستثمرين السوريين إلى دول الجوار خاصة أنها طالت معظم المدن والمناطق الصناعية المتركزة في حلب ودرعا وريف دمشق وحمص، فقد خلّفت خسائر هائلة بلغت في آخر إحصائية صادرة عن جمعية العلوم الاقتصادية في دمشق 503 مليارات ليرة بالنسبة للقطاع الخاص وأكثر من 400 مليار للقطاع العام.. وهذه الأرقام تشمل الخسائر المباشرة التي طالت آلاف المنشآت الصناعية، وخاصة إذا علمنا أن عدد المنشآت التي كانت موجودة في سورية قبل الثورة بلغ نحو 100 ألف منشأة على اختلاف أحجامها، ولكن الأكثر خطورة هو عدم الاستماع لمطالب مَن تبقى مِن صناعيين في سورية، وتجاهل احتياجاتهم لاستمرار إنتاجهم. ما دفع بالكثير منهم إلى تغيير نشاطهم وخروجهم من دائرة الإنتاج.

“صنع في سورية” بات مجرد شعار

 أثقل كاهل الصناعة السوريّة كم كبير من المشكلات باتت معه غير قادرة على العطاء، هذا ما أكده صناعي سابق يعمل في تجارة الألبسة حالياً لـ”صدى الشام” فقد أشار إلى أن معظم الصناعيين في سورية يعانون من عدم توفر المحروقات وارتفاع أسعارها والمتاجرة بها في السوق السوداء فقد بلغ سعر ليتر المازوت حالياً 250 ليرة، ويأتي ذلك في ظل تقنين كهربائي بلغ في ريف دمشق 12 ساعة انقطاع بساعة تغذية واحدة فقط، ما دفع معظم الورشات والمعامل في الأرياف لاستعمال مولدات الديزل في التشغيل، وهذا من شأنه أن يرفع من تكاليف الإنتاج على الصناعي، وبالتالي على المستهلك، ويصبح سعر المُنتج مرتفعاً، كما أنه في حال الرغبة بتصدير السلعة إلى الأسواق الخارجية فإن سعرها لن يكون منافساً.

 وأكد التاجر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه أن الصناعة حالياً تعاني من صعوبة توفير مستلزمات الإنتاج مثل الخيوط والأقمشة، فمعظمها بات مستورداً، ويتحكم بها عدد من المستوردين والتجار. وبالإضافة لذلك فقد تعرض الصناعيون لخسائر كبيرة نتيجة فروقات سعر الصرف التي التهمت رأس المال والأرباح، كما يعاني الصناعيون أيضاً من قلة اليد العاملة الخبيرة، فمعظم العاملين حالياً من النساء، ومن هم دون سن ” خدمة العَلَم” إذ أن معظم الشباب هاجر إلى خارج البلاد. فضلاً عن أن أجور العاملين باتت مرتفعة كثيراً، فأي عامل خياطة لا يقل أجره الأسبوعي عن 30 ألف ليرة إن وُجِد.

وأشار التاجر إلى أن هموم الصناعة تزداد أكثر فأكثر، وهذا ما دفع الصناعيين إلى تغيير نشاطهم نحو التجارة، مستغرباً إطلاق شعار “صُنِع في سورية” في ظل عدم اهتمام حكومي بالمحافظة على هذا الشعار، فلا يوجد أية تسوية للقروض، ومعظم الصناعيين ممنوعون من السفر نتيجة عدم قدرتهم على تسديد القروض، وهذا ما حدث خلال وقفة عيد الأضحى الماضي، إذ تعرض بعض الصناعيين الكبار إلى التوقيف على الحدود اللبنانية السورية، وكادوا أن يُسجَنوا كونهم لا يعلمون أنهم ممنوعون من السفر، متسائلاً: أين تشجيع الصناعة الوطنية؟ الصناعي لن يترك القروض دون تسديد ولكن منشآته غير قادرة على تسديد الالتزامات إما لتوقفها أو لتهدمها، أو عدم قدرتها على تغطية تكاليف الإنتاج. فكيف له أن يُسدد؟

ولفت التاجر إلى أن التجارة باتت أقل هماً، فالصناعي من السهل عليه أن يتحول لتاجر، بما أن دورة رأس المال سريعة وأرباح التجارة أكبر، عدا عن كون التجارة ليس فيها أي من الأعباء السابقة، مشيراً إلى أن الكثير من الصناعيين تحولوا إلى استيراد السلع المصنعة وبيعِها في الأسواق بنسب أرباح معينة أو إلى افتتاح محلات تجارية.

 

هموم عديدة وفي النهاية نخسر

 

صناعي يعمل في مجال المنظفات أكد لـ”صدى الشام” أن القوانين الناظمة للصناعة في سورية باتت بالية وتحتاج إلى تعديل جذري، فالترخيص صعب المنال وشروطه معقدة جداً، بدءاً من تركيب ساعة الكهرباء الصناعية التي تُكلف ما لا يقل عن نصف مليون ليرة، هذا في حال استطاع الصناعي تركيبها. ورغم الوعود الحكومية بالتساهل في الترخيص في حال توفرت الشروط الممكنة، إلا أن الجهات المعنية لم تقُم بذلك، مثل المحافظة والمكتب التنفيذي فيها، فيجب عليك في حال أردت الترخيص لأية منشأة صناعية أن تدفع رشاوي حتى وإن كان عملك صحيحاً ولا يحمل أية مخالفة، ولكن لكي تسير المعاملة بشكل سريع عليك أن تدفع كي “لا تنام في الأدراج”.

ولفت الصناعي إلى أن هذه الأمور المعقدة دفعت معظم الصناعيين للعمل في الأقبية وفي الظل، أي بعيداً عن هموم الترخيص، مشيراً إلى أن نسبة كبيرة من الصناعيين الكبار “تقلص حجمُهم” خلال السنوات الماضية، وباتوا يعملون ضمن ورشات عمل، كونهم لا يملكون إلا الخبرة بعد أن ذهب رأسمالهم.

وبيّنَ الصناعي أهم صعوبات الصناعة السورية حالياً والتي تتمثل بـ:”غياب الدعم الحقيقي من قبل النظام سواء بالنسبة لتوفر مستلزمات الإنتاج، أو الضرائب والرسوم المرتفعة، والأجور” الفلكية” للعقارات الخاصة بالمنشأة الصناعية. وبعد أن تُلقى كل هذه الأعباء على الصناعي الذي يرغب أن يشغل اليد العاملة يَخرج بخسائر فادحة كون التكاليف باتت عالية وهامش الربح ينخفض.

 

احتكار القلة

 باحث اقتصادي بيّن لـ”صدى الشام”، أن الصناعة تعتبر أحد أهم الحلقات في العمود الفقري لأي اقتصاد في العالم، وضعف هذه الفقرة من شأنه أن يهدد الاقتصاد ويحوّله من منتج إلى مستهلك، وهذا ما يحدث في سورية حالياً، فبعد خروج آلاف المنشآت الصناعية عن دائرة الإنتاج وبطء الإجراءات الحكومية في معالجة ونقل المنشآت الصناعية وتعرض الكثير منها “للتعفيش” والسرقة، رأى  الكثير من الصناعيين ممن غادروا سورية أن طريق العودة صعب ولا يحمل أي حوافز، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الصناعي السوري في الدول المجاورة “ليس سعيداً” ولا يحقق أرباحاً كبيرة كونه يواجه منافسة شرسة من الشركات الأصل في تلك الدول، وعلى هذا الأساس جاء الحديث عن رغبة رجال الأعمال السوريين في مصر بالعودة، دون أن يكون بإمكانهم ذلك نتيجة الملاحقات القضائية لهم وعدم توفر الظروف المناسبة للاستثمار في سورية.

وتطرق الباحث إلى جملة الصعوبات التي تواجه الصناعة السورية حالياً والتي تشكل امتداداً للمشكلات السابقة، وهو ما دفع بعدد لا يستهان به من الصناعيين لتغيير نشاطهم الصناعي، وتحول معظمهم إلى التجارة، “وهذا له تداعيات سلبية عديدة على الاقتصاد وبالتالي على المواطن، فمن شأن ذلك أن يرفع من فاتورة الاستيراد أكثر ويؤثر على سعر الصرف، ويؤدي لفقدان المنتجات في الأسواق، وهذا ما يحدث حالياً، مشيراً إلى أن هذا الأمر أنتج ظاهرة جديدة وهي احتكار القلة للإنتاج في السوق السورية، “فالبقاء للأقوى، ولا مكان للصغير في ظل غياب الدعم وتذليل الصعوبات”، ليبقى عدد قليل من الصناعيين المعروفين في سورية يتحكمون بالإنتاج وبالأسعار وتوفر السلع وفق مزاجهم وما تملي عليهم مصالحهم الشخصية، والكلام لا ينطبق على كل الصناعيين ولكن هذه الظاهرة موجودة”.

 

 

ولفت الباحث إلى أن الحل يكمن بدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، قولاً وفعلاً، فالحديث عن المشاريع الصغيرة تكرر خلال أكثر من 10 أعوام ولكن لا جديد في الأمر،  كما أنه من الضروري توفير حوامل الطاقة وتخفيض أسعارها للصناعيين، وإعفاء مستوردات الصناعة من كامل الرسوم والضرائب للقطاعين العام والخاص، بالإضافة لوقف هجرة الشباب إلى الخارج عبر إيجاد حلول للمشكلات التي تدفعهم للهجرة، وأهمها قضية التجنيد، مع جدولة القروض المصرفية التي تخلف الصناعيون عن دفعها، بحيث تعفى من زيادات التأخير، ويتم تقسيطها بعد التأكد من إقلاع المنشأة في الإنتاج.

 

مفارقة لا تخلو من الغرابة

 

فيما يبدو الاقتصاد السوري منهكاً وفي حال يرثى لها بسبب سياسات النظام وعسكرته لكل مفاصل المجتمع في سبيل بقائه تبرز مفارقة غريبة، فبعد الحديث عن مجمل العوامل السلبية المؤثرة على الصناعة فقد ذهب الباحث الاقتصادي في حديثه لـ صدى الشام إلى التأكيد على أن الاستثمار حالياً في سورية رابح أكثر من أي دولة في العالم، فاليد العاملة حسب قوله ورغم ارتفاع أجورها فهي تعتبر أرخص يد عاملة في العالم مقارنة مع سعر الصرف طبعاً، إذ أن “أجر 30 ألف ليرة للعامل أسبوعياً -وهو أجر ممتاز بالمقاييس السورية- يعني 50 دولاراً، وفي الشهر 200 دولار، فهل يوجد عامل في العالم يتقاضى 200 دولار في الشهر؟”. كما أن السوق السوري متعطش للسلع والمنتجات في ظل العقوبات الاقتصادية وضعف الإنتاج وصعوبة الاستيراد، لذا فإن أي صناعي يملك رأسمال ضخم يمكنه أن يحقق أرباحاً هائلة في السوق السورية، أكثر من أي سوق في الدول المجاورة.

لكن السؤال هو هل لنظام ضيّع فرصة النهوض بالبلاد أيام السلم والرخاء أن يقتنص ما تبقى من عوامل لإنقاذ الوضع الاقتصادي على ندرتها؟ وهل يضع هذا النظام المواطن السوري في حسابه من الأساس؟ لعل هذا لسان حال السوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]