حلب في قبضة الميليشيات .. والشعب ينتفض على الفصائل


بلغت مأساة حلب ذروتها بتهجير مقاتليها وسكانها ، وتسليم المدينة لإيران وميليشياتها، بعد أسابيع من القصف الجنوني على الأحياء الشرقية من المدينة، مع القضم التدريجي لتلك الأحياء، ليتم حصر المقاتلين ومعهم نحو 70 ألفاً من السكان في بضعة أحياء، قبل أن يبرز على عجل اتفاق تركي روسي، يقضي بخروج المقاتلين والمدنيين جميعاً من المدينة باتجاه الريف الغربي في حلب، ومحافظة إدلب.

وبموجب الاتفاق خرجت عدة دفعات من المحاصرين قبل أن تتوقف العملية إثر محاولات إيران المتكررة بمؤازرة الميليشيات الطائفية التي تديرها على الأرض لتعديل الاتفاق ليشمل بلدتي كفريا والفوعا الشيعيتين في ريف إدلب، بحيث يتم إخراج سكانهما أيضاً بالكامل بموازاة عمليات الترحيل من حلب، قبل أن تنجح أخيراً -عقب عمليات عرقلة متكررة للاتفاق تضمنت الاعتداء على قوافل المرحلين وقتل بعضهم- في فرض إخراج عدة آلاف من سكان البلدتين مقابل السماح بخروج بقية الرهائن في حلب مع 1500 من سكان بلدتي مضايا والزبداني المحاصرتين من جانب ميليشيا حزب الله في منطقة القلمون قرب دمشق.

 

 الانطلاق من حي السكري

ومع استئناف عمليات الترحيل وفق الاتفاق الأخير، كان من المقرر أن ترسل قوات النظام مئة حافلة لهذا الغرض إلى الأحياء المحاصرة في حلب، ما يعني تسريع عمليات الإجلاء قياساً للوتيرة السابقة، إذ كانت توفر نحو عشرين حافلة في القافلة الواحد تُقل ما بين 1000 و1200 شخص، ما يعني مضاعفة عدد المرحلين عدة مرات، لكن إقدام بعض الغاضبين في إدلب على إحراق عدة حافلات جاءت لنقل سكان كفريا والفوعا تسبب في إبطاء عمليات الترحيل بعض الشيء، وتأخير خروج آلاف المدنيين والعسكريين من الأحياء الشرقية في حلب، والذين أمضوا عدة أيام بانتظار الحافلات في العراء وسط البرد القارس ونقص شديد في الطعام وحتى الماء فضلاً عن الأدوية والعناية الصحية، وكل مقومات الحياة الأخرى من كهرباء وتدفئة ووقود، الأمر الذي تسبب في وفاة المزيد من الجرحى الذين غصت بهم الشوارع، وكذلك بعض الشقق التي تحولت إلى مراكز صحية، بعد تدمير قوات النظام الممنهج لجميع المشافي في المدينة خلال عمليات القصف السابقة.

 

كما أن قوات النظام والميليشيات الطائفية المشغولة بـ “تعفيش” بيوت أهالي حلب لم يكن لديها ما يكفي من الوازع الاخلاقي والإنساني لانتشال جثث ضحايا القصف من بين الأنقاض في  الأحياء التي دخلتها، ولا حتى رفعها من الشوارع، لدرجة دفعت “شبكة أخبار حلب الشهباء” الموالية للنظام لنشر عدة نداءات تطالب الهلال الأحمر ومن سمتهم “أصحاب الحق ورجال الإنسانية وجميع الجهات التوجه إلى أحياء حلب الشرقية من باب النيرب إلى الفردوس والمعادي لرفع الجثث الموجودة في الأزقة والطرقات منذ قرابة أسبوع”. وأكدت الشبكة أن عناصر النظام يشاهدون تلك الجثث دون أن يلقوا بالاً لها.

 

يتجمع الناس في ساحة بحي السكري بانتظار الحافلات، ويصعدون إليها دون تفتيش، لكن يصعد إلى الحافلة ضابط روسي يقوم بإحصاء العدد في الحافلة، قبل أن تنطلق، تتقدمها سيارات تابعة للهلال الأحمر السوري وللصليب الأحمر الدولي. غير أن التجربة الماضية أفادت أن وجود هؤلاء لا يفيد شيئاً في حماية المرحلين، حيث أنهم سرعان ما انسحبوا عندما اعترضت الميليشيات قوافل المهجرين يوم الجمعة الماضي، وأنزلتهم وتعرضت لهم بالضرب والإهانة وسلبت ممتلكاتهم وأعدمت عدداً منهم، قبل أن تطلق سراحهم وتجبرهم على العودة إلى المناطق المحاصرة.

وفي الأيام الاولى، كانت الأولوية بالنسبة لمن يصعدون إلى الحافلات للجرحى، ومن ثم عائلات المقاتلين، ثم بقية المدنيين، على أن يكون المقاتلون هم آخر الخارجين تحسبًا لغدر قوات النظام، أو انقضاضها على المدنيين بعد خروج المقاتلين.

وصول المهجرين

وحال وصول المهجرين إلى “النقطة صفر” في حي الراشدين بالريف الغربي، وهو أول ما يكون في طريقهم بعد خروجهم من مناطق سيطرة قوات النظام، يتم توجيه الحافلات إلى وجهتها التالية، بعد تفقد الموجودين والتعامل مع الحالات الصعبة من الجرحى.

وقد أعدت السلطات والمنظمات المحلية في الريفين الغربي والشمالي من محافظة حلب وفي محافظة إدلب تجهيزات لاستقبال المرحلين بالتعاون مع السلطات التركية  ومنظمة (IHH) الإغاثية التركية لناحية الإقامة والطعام والمعالجة الطبية، حيث أنشأت السلطات التركية مراكز طبية قرب الحدود، وداخل الأراضي السورية لمعالجة الجرحى الواصلين، ومن كانت حالته صعبة يتم إدخاله إلى الأراضي التركية ليتلقى العلاج في المشافي التركية، حيث سمح بدخول نحو مئة حالة حتى الآن، توفي منهم عدة أشخاص.

ومع استئناف عمليات الإخلاء من أحياء حلب المحاصرة، تشير التقديرات إلى أن عدد المغادرين قد يصل إلى أربعين ألف شخص أو أكثر، وهو ما يطرح مشكلة كبيرة أمام المسؤولين في محافظة إدلب التي قد تكون الوجهة النهائية لغالبية المرحلين، لناحية تأمين مساكن ومراكز إيواء لهم، فضلاً عن الخدمات والاحتياجات الضرورية الأخرى في ظل الإمكانات الضعيفة لمجلس محافظة إدلب، وفي ظل القصف شبه اليومي لمجمل مناطق المحافظة من جانب الطيران الروسي وطيران النظام، ومع غياب الدعم الدولي حيث انسحبت جميع المنظمات الإنسانية الدولية من المنطقة قبل عدة أشهر بسبب عمليات القصف، ولم يسجل أي حضور في الآونة الأخيرة إلا للمنظمات التركية التي تنشط أكثر في المناطق الحدودية، لجهة تأمين المساعدات الغذائية والصحية، فضلاً عن المباشرة في بناء مخيم كبير ضمن الأراضي السورية لإيواء المهجرين .

وعمدت السلطات المحلية في إدلب إلى توزيع الواصلين على مراكز إيواء مؤقتة، ريثما تتدبر كل عائلة او شخص أمورهم، حيث ينتقل من لديه أقارب أو أصدقاء في المحافظة للإقامة عندهم، أو يستأجر منزلاً خاصا به، ومن لا يملك الإمكانات المادية، قد يختار الإقامة في المخيمات التي أقيمت في المدينة والتي تقدم للمقيمين فيها جميع الاحتياجات، ولو أنها باتت مزدحمة كثيراً ولا تستطيع استقبال المزيد.

 وفي ريف إدلب، تم إيواء عشرات العائلات في بلدات سرمدا وأطمة وسلقين وبيرة ارمناز ومعارة الاخوان ومدرسة ترمانين  ودركوش وجسر الشغور ومخيم إحياء التراث في الدانا وبلدات أخرى في ريف إدلب.

 

وخلال محاولاتنا التواصل مع بعض الواصلين إلى تلك المناطق رفض بعضهم الحديث لشدة تأثره بالمصاب الذي حل به، فيما قال الناشط الإعلامي محمد حجار: “إن المعضلة الأساسية هي ان التهجير يأتي في فصل الشتاء حيث البرد قارس، ولا توجد وسائل تدفئة كافية خاصة بالنسبة للأطفال وكبار السن، وما يزيد من الصعوبات عدم وجود تنسيق كافي بين الجهات التي تحاول تقديم المساعدة”.

واستطرد حجار بالقول إن أغلب من يعرفهم ذهبوا إلى “مخيم في قرية معارة اخوان بريف إدلب الشمالي، وآخرون اتجهوا إلى بلدة اورم الكبرى، أو إلى مدينة  إدلب وريفها، ومن ليس لديه بيت يذهب إلى المخيمات”.

 

وحول الأوضاع في مراكز الاستقبال والمخيمات،  قال حجار إن الطعام مؤمن بشكل جيد، لكن المشكلة هي في التدفئة حيث يمتنع المعنيون عن توفير وسائل تدفئة خشية حدوث حرائق.

ومحافظة إدلب التي تبلغ مساحتها نحو  6000 كلم2 تستقبل ما يقرب نصف مليون نازح خاصة في مخيماتها الشمالية على الحدود التركية من سلقين إلى باب الهوى واطمة، والتي يزيد عددها عن 200 مخيم، وقد بلغت طاقتها القصوى في الاستيعاب، بحسب ما يقول المسؤولون المحليون.

وما يخفف من العبء في عمليات التهجير الحالية الحضور المكثف لمنظمات خيرية كبيرة مثل IHH التركية ومنظمة بنفسج والهلال الأحمر، برغم غياب المنظمات الدولية منذ عدة أشهر، حيث قامت المنظمات المذكورة بنقل المهجرين إلى ريف حلب الغربي، فاختار بعضهم البقاء هناك أو الانتقال إلى إدلب .

 كفريا والفوعا

وبرزت خلال عملية تهجير سكان حلب منطقتا كفريا والفوعا في ريف إدلب في المعادلة الديمغرافية والعسكرية بين النظام والمعارضة،  وترى مصادر عسكرية في المعارضة أن ايران والميليشيات حاولت بشراسة تعطيل الاتفاق لإشفاء غليلها تجاه مقاتلي حلب من جهة، ولفرض إجلاء المدنيين في كفريا والفوعة من جهة أخرى، وذلك في إطار التحضير لمعركة إدلب المقبلة. وتشير المصادر إلى أن هاتين البلدتين اللتين تقطنهما غالبية شيعية قد يشكلان عبئاً على قوات النظام والميليشيات خلال اندلاع معارك في إدلب، حيث يعمد مقاتلو المعارضة إلى قصفهما عادة بغية التخفيف عن مناطق أخرى يقصفها النظام، وهما بمثابة “رهينتين” لدى فصائل المعارضة.

كما أبرزت التطورات في حلب الدور المتعاظم للميليشيات الايرانية في الساحة السورية والتي تستطيع عرقلة الاتفاقات التي ترعاها قوى دولية، بما فيها روسيا الداعم الرئيسي لنظام الأسد.

وتعمل الميليشيات التي تأتمر بأمر إيران بشكل مستقل، ولا تلتزم برأي النظام وروسيا إلا تحت الضغط العسكري المباشر عليها، وحينما تأتيها الأوامر من إيران تحديداً.

ويَحفل سجل هذه الميليشيات بارتكاب العديد من الجرائم خلال المعارك الأخيرة في حلب، حيث جرى بحسب الأمم المتحدة إعدام ما لا يقل عن 80 شخصاً في الأحياء الشرقية من مدينة حلب، وعمد أفراد هذه الميليشيات إلى إعدام عائلات الأشخاص المنتمين إلى فصائل المعارضة أو حتى عائلات الناشطين الإعلاميين والإغاثيين.

ورأى مراقبون أن الخلافات بين روسيا وايران الذي برز خلال عمليات الترحيل من حلب يشير إلى طبيعة هاتين الدوليتين، حيث لروسيا مصالح في سوريا، ولا يهمها كثيراً مصير رئيس النظام بشار الأسد، بينما تعمل إيران على مشروع عقائدي طائفي، وتستخدم الميليشيات كذراع باطشة على الأرض، وتتمسك بالأسد كواجهة شكلية لتديره من وراء الستار.

 

 

ما بعد حلب

ويبدو أن تصريحات رئيس النظام بشار الأسد بأن مرحلة ما بعد حلب لن تكون كما قبلها، لا تبعد عن الحقيقة، على الأقل بالنسبة لساحة المعارضة، إذ سرعان ما شهدت معظم المناطق السورية مظاهرات تندد بتقاعس فصائل المعارضة عن نصرة حلب، وتطالب بتوحيد الفصائل في جسم عسكري وسياسي واحد، وفتح الجبهات الخامدة مع النظام.

وشملت هذه المظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف خاصة يوم الجمعة الماضي محافظات درعا وإدلب وحمص وريف دمشق وريف حلب والقنيطرة

وفي محاولة للتناغم مع هذه المطالب الشعبية، تكثفت المشاورات بين قادة الفصائل لتشكيل جسم عسكري واحد لقوات المعارضة، حيث برزت أنباء عن صيغة اندماج مشتركة للشمال السوري، من خلال إقدام  14 فصيلاً على حل نفسها ذاتيًا بقرار داخلي، وإعلان اندماجها كاملة في كيان جديد قد يطلق عليه اسم “الهيئة الإسلامية السورية” أو اسم آخر.

 



صدى الشام