قراءة في “إعلان موسكو”


عقاب يحيى

قبل الشروع في مناقشة بنود، وروحية، وخلفيات “إعلان موسكو”، ومدى قابليته للتجسيد، وتباين مواقف أطرافه في مسائل رئيسة، فإن اللقاء بحد ذاته يُثير عديد الأسئلة كونه؛ يأتي بعد الذي جرى في حلب، والذي يمكن أن يكون منعطفًا في صعد شتى، خاصة ما يرتبط بمسار الثورة السورية وخياراتها المقبلة، ودخولها امتحانًا جديدًا، يُمثّل تحديًا حقيقيًا في مدى قدرتها على هضم وتجاوز ما حصل.

اللقاء يضمّ ثلاثة أطراف مختلفة المواقف في جوهر التوجه الذي أعلنوا عنه، إن كان ما يرتبط بنفيهم للحل العسكري، واعتباره غير مجد في وقت تمارس فيه روسيا فعل الاحتلال بكل معانيه، وتستخدم أنواعًا شتى من الأسلحة المحرمة دوليًا، والمتطورة التي تصبّ في صالح النظام وإعادة سيطرته على مناطق تابعة للمعارضة، أو بالنسبة للدور الإيراني المحمول على تدخل عنيف مباشر، وعبر استقدام عشرات الميليشيات الطائفية الممتلئة بالحقد وروح الثأر والانتقام، ومواصلة نهج القتال، والتدمير، بينما يظهر الموقف التركي المنخرط، أيضًا، في الشأن السوري مباشرة، وكأنه على حد السكين، ومرتبك بالقياس إلى ما كان يعدّه ثوابت موقفه على مدار سنوات الثورة.

الخلاف كبير، أيضًا، في فحوى الحل السياسي المطروح، فالطرفان الروسي والإيراني يتلاقيان في الإبقاء على النظام القائم، ورئيسه، وأجهزته الأمنية والعسكرية، مع غموض ملتبس في المدى الزمني المحدد -بحسب التصريحات المعلنة- إلى نهاية المرحلة الانتقالية، وخوض الانتخابات التي يفترض قيامها بعد ذلك، بينما كان الموقف التركي يتركز حول: إسقاط النظام، وإبعاد الأسد عن المشاركة في المرحلة الانتقالية، وهو الموقف الذي ما يزال يتكرر بعد أيام من “الإعلان”.

الاتفاق على أن محاربة الإرهاب هو الأولوية، والعنوان الرئيس للتوافق والمرحلة القادمة يعني فيما يعني السكوت على جرائم النظام ومصيره، ويعني تجاوزًا لمختلف الميليشيات الطائفية الوافدة التي تُمثّل أذرع المشروع الإيراني في بلادنا، وهي التي لم تصنف ضمن المنظمات الإرهابية، وترفض إيران، بالمطلق، ومعها روسيا، الاقتراب من محاولات تصنيفها.

بغض النظر عن طموحات الأطراف المشاركة في “إعلان موسكو” في لعب دور مهم، وحتى احتكاري في الشأن السوري، فإن الواقع الدولي، وثقل التأثير الأميركي، ودور المنظمة الأممية، والاتحاد الأوربي.. لا يسمح بالذهاب بعيدًا في خطوات انفرادية، وهو ما يمكن ملاحظته عند التأكيد على المرجعية الأممية وقراراتها، خاصة القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، وبقية القرارات الخاصة بالمسألة السورية، كما أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استدرك هذا الوضع بتكرار التأكيد على الدور الأميركي، و”الجهود المشتركة” التي بذلاها في هذا الشأن وإقراره بمواصلة ذلك الجهد الثنائي الذي همّش جميع الأطراف الأخرى، ويتناقض وروحية “إعلان موسكو” ومحاولات القيام بدور خاص، وبما يعني إمكانية تواصل هذا الدور ودفن نصوص الإعلان، أو أرشفته.

* * *

في مناقشة بعض بنود المبادرة، لا شكّ في أن السوريين -في أغلبيتهم الساحقة- يُرحّبون بنصّ الإعلان على “المحافظة على سلامة ووحدة الجمهورية العربية السورية”، وخاصة أن الأخطار كبيرة وواقعية في تعريض البلاد للتقسيم من خلال موضعة كيانات الأمر الواقع، أو ما يًعرف بمناطق النفوذ، أو بالنزوع الاستقلالي لبعض المجموعات الإثنية وغيرها.

وعلى الرغم من الترحيب بهذا التوجه، فإن الخوف يبقى قائمًا من خلال ما يجري على الأرض، ومن المعلومات المتواترة عن وجود تفاهمات ومقايضات تهدف إلى إقامة كانتونات الأمر الواقع. في الوقت نفسه فإن النص على طبيعة النظام المنشود “متعدد الأعراق والديانات، وعلماني” يفتح المجال للبس وعديد التفسيرات ويفرض على السوريين نمطًا دون أخذ رأيهم، أو مشاركتهم في صوغه وتكريسه.

* * *

وبالتوقف عند فكرة دعوة النظام والمعارضة إلى لقاء مرتقب في كازاخستان، فإن إشكاليات واقعية تقتحم هذا الإعلان، والمرتبطة بطبيعة القوى المعارضة التي ستدعى، والتي هي محط خلاف بين تلك الأطراف. فموسكو تعد “أصدقاءها” في ما يعرف بـ “منصات القاهرة وموسكو وحميميم والآستانة”، جزءًا رئيسًا من أي وفد، بينما قوى المعارضة المنضوية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة؛ وحتى في الهيئة العليا للمفاوضات، تعد بعض شخصيات وأطراف تلك المنصات أقرب إلى مواقف النظام، ويصعب حسابها على المعارضة، بينما تشير بعض التسريبات إلى أن وفد المعارضة الذي سيُدعى هو من “المقاتلين” أساسًا؛ بدعوى بحث وقف إطلاق النار وقفًا شاملًا ودائمًا، وبما يعني تهميش المعارضة السياسية، أو إلحاقها كواجهة.

عدد كبير يشكك في قابلية تطبيق بنود هذا الإعلان؛ انطلاقًا من الخلافات الكبيرة الموجودة بين أطرافه من جهة، ودور القوى والهيئات الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأميركية والتي تطمح إلى القيام بدور حيوي، خاصة بعد تولي الرئيس الأميركي الجديد لمهماته في البيت الأبيض، إذ يملك رؤى تبدو مختلفة عن الآخرين، من جهة ثانية، واستبعاده للدور العربي المناصر للثورة السورية.

مع ذلك، فالشعب السوري الذي انهكته حروب القتل والتدمير والتهجير، يطمح -حقيقة- إلى وضع آمن يعيش فيه، بعيدًا عن تهديد الحياة، وعن الحرب المدمرة، لكنه، أيضًا، هو الشعب الذي ثار لأجل حريته وكرامته، وقدّم كثيرًا في سبيلها، لن يقبل بمكافأة القاتل ونظامه بالبقاء في الحكم ولو ليوم واحد، وبما يحمل معه عوامل الفشل.

هنا، وبغض النظر عن الميزان الحالي للقوى، وما يحققه النظام بفعل الآخرين المحتلين لبلادنا، فإن هذا الوضع لن يكون نهائيًا، وهو قابل للتغيير، خصوصًا وأن المعارضة مطالبة بمراجعات شاملة لمسارها وأساليب عملها، خاصة الفصائل المنضوية في الجيش الحر باتجاه تغيير الأساليب، وممارسة وسائل تتناسب والتطورات والقدرات.

والحل السياسي الذي لا يحقق مطالب السوريين في الحرية والكرامة والانتقال إلى نظام تعددي ديمقراطي لن يصمد، ولن يتجسد.




المصدر