القيم الإنسانية والأخلاقية في روايتي “قصي أبو قويدر”*
26 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
محمود الوهب
يدين الأديب قصي أبو قويدر، عبر سرد روائي سلس، العنصرية الأميركية تجاه الشعوب والأديان الأخرى، وبالتحديد تجاه المسلمين الذين يعانون النظرة الأميركية الدونية، إلا أنهم، -المسلمين- ومن خلال جدهم ومثابرتهم، ومهاراتهم الملحوظة في ميادين العمل المختلفة، وعبر علاقاتهم الودِّية بالآخر، يستطيعون تغيير نظرة الآخر إليهم. تقرأ ذلك عبر روايته الجديدة “إمبراطورية العبيد” فالرواية مبنية دراميًا على أساس قصة حب تعيشها بطلة الرواية “ماغي” العاملة في مؤسسة اجتماعية عنصرية تكره المسلمين، مع طبيب مسلم، تطوى من خلالها صفحة الكراهية في نفسها للمسلمين، إذ إنَّ ماغي تلمس بالتجربة بُطْلان ما تقوم به تلك المؤسسة. فتأخذ النظرة الموضوعية طريقها إلى نفسها. وكأنَّي بالروائي أراد القول لقارئه: إنَّ الحبَّ والسلوك الاجتماعي القويم، كافيان لإثبات الذات وتأكيد المعتقدات، سواء كانت فردية أم اجتماعية، واستبدال الصورة الحسنة بالأخرى السيِّئة.
إنها رواية اجتماعية إنسانية تعالج واقعًا موضوعيًا قائمًا اليوم، وربما اتسع أكثر مع تنامي هجرة العرب والمسلمين إلى أوربة وأميركا. وإذا كانت هذه لمحة سريعة عن مضمون الرواية فإن شكلها الفني وجماليته السردية تلتقي على نحو أو آخر مع الرواية الثانية الخبز الأحمر التي يأتي الحديث عنها.
“الخبز الأحمر” رواية مخلصة لبيئتنا السورية وواقعها، تدور أحداثها في مدينة درعا السورية، مدينة الأديب نفسه، وتبدأ مع بداية الحراك السلمي الشعبي في منتصف آذار من العام 2011، وتذكِّر في بداياتها بالحوادث التي جرت مع بداية العقد التاسع من القرن العشرين في مدينة حماة، وفي بعض المدن السورية الأخرى، لا لشيء، بل لتسجِّل أنَّ حقوق الناس قد تهدر لزمن ما، محدود، لكنها لا تموت أبدًا. فقد يظنّ أن الظلم يمضي مع الزمن وينقضي، لكنه في الحقيقة يبقى جمرًا تحت رماد. يحرِّك أوجاع المظلوم ويستحثه، حين، تواتيه فرصة الانتقام…!
تتوالى أحداث الرواية عبر محورها، وهي العائلة الصغيرة الفقيرة المنكوبة بأحداث الثمانينيات، إذ فقدت معيلها وسندها الرئيس، كما (الكهل أبو أيوب) أحد أبطال الرواية الآخرين. تدفع الأوضاع السيئة الأسرة للبحث عن سبل للعيش، فتعمل في منزلها على صناعة نوع من الخبز، وبيعه.
تتكون العائلة من أم مريم وابنها يحيى وابنتها العزباء مريم التي نالت الشهادة الثانوية، الفرع العلمي، بتفوق، إلا أنها لم تلتحق بالجامعة لظروفها العائلية، وليتمكن أخوها يحيى من متابعة دراسته.
من خلال حركة أفراد الأسرة وعلاقاتهم المتشابكة مع مجتمعهم وزبن الخبز، تأتي الرواية على تلك المرحلة عبر مشاهد درامية تلفت انتباه القارئ في تتاليها وتراكمها. وقد رسمت معالمها لغة بسيطة، وصاغ عباراتها أسلوب سهل، وسرد شائق، وحوار مباشر يأخذ حيزًا واسعًا من السرد، إذ يستعرض وقائع تلك البدايات، وأحداثها، بإيقاع يناجي صوت معاناة أرواح الأبطال المكلومة.
قبل الدخول إلى عالم الرواية الفني، وإعطائها حكمًا نقديًا ما، لابد من الإشارة إلى أمر مهم في النقد الأدبي، يتعلق بكيفية التعامل مع النص. وأستشهد بالأستاذ الدكتور فؤاد المرعي الذي يخاطب الدارسين قائلًا:
“تعاملوا مع النص الأدبي بحب، فإن فعلتم ستكونون موضوعيين بالحكم عليه”.
من هنا أنطلق في قراءتي السريعة لرواية الخبز الأحمر وأبدأ بالعنوان: “الخبز الأحمر” الذي تشير إليه الصفحات الأخيرة من الرواية، حين تغتصب مريم أمام أمِّها، بينما تقوم الاثنتان بعملهما حين يداهم الأمن المنزل، فيحصل ما يحصل، ويمتزج دم بكارة الفتاة بكرات العجين المهيأة للخبز. قد يكون العنوان هنا واقعيًا ومباشرًا، لكنَّ إيحاءاته تذهب بالمتلقي بعيدًا؛ إذا ما أراد أن يتخيَّل مراحل احمرار الرغيف وإنضاجه، مقارنًا ذلك باشتعال الثورة على نار الوجع الطويل، فسيجد الكثير من المشتركات.
أما الرواية فهي وإنْ كانت لا تعنى كثيرًا بالسرد الروائي الحديث أو الحداثي، لكنها تمتلك من الجماليات السردية، في شكلها والمضمون، ما يمنحها الخصوصية، وبعضًا من سمات التميُّز. فهي تعزف على أوتار العواطف البشرية، ومشاعرها، وتنتصر لكل ما هو إنساني ونبيل، ما يجعل القارئ يتفاعل معها بجدية، منفعلًا بذلك مع عمقها الإنساني، الذي تمثله شخصيات حية رسم المؤلف معالمها بمهارة. وأستطيع هنا أن أستخلص الكثير من تلك المعالم التي تحسب للرواية، ومن ذلك أنَّها:
– تقترب كثيرًا في بساطتها، وفي أبعادها الإنسانية من السير الشعبية التي عرفناها في تراثنا العربي؛ إذ تبرز ملامح ذلك في رسم شخصيات أبطالها، فهي شجاعة مندفعة غير مترددة في أفعالها النبيلة، وفي انحيازها الدائم إلى الخير ضد الشر. يتضح ذلك في شخصيتي الشابين يحيى ومراد، كما في شخصية الكهل أبي أيوب…! إضافة إلى أنَّ الحوار الواقعي البسيط في لغته، كثيرًا ما يستدر عواطف القارئ، ومشاعره، وهو يرسم مشاهد المواقف المفصلية وتجلياتها. كذلك يلمس القارئ اقتراب الشخوص في تصرفاتها ومواقفها من العفوية الطفولية؛ وكأني بالروائي هنا يلقي بمخزونه الطفولي، وبما يحتفظ به الخيال الشعبي من تصورات عن حياته والناس والكون من حوله.
– تصف الرواية مراحل الثورة ودقائقها على نحو واقعي يقترب من التسجيل في كثير من الأحيان، فهي، إضافة إلى الحوادث الأولى في المسجد العمري، تسمي “عاطف نجيب” على سبيل المثال، وتعيد حرفيًا ما قاله للوفد المطالب بالأطفال، وترسم لوحة جامعة للمشاركين بالثورة، معطية صورة حقيقية عمَّا حصل، فالشعب بأطيافه وشرائحه الاجتماعية كافة، ساند الثورة التي أخذت -منذ البداية- تنتصر للكرامة المجتمعية، فثمة تاجر ومزارع وطبيب وطالب ورجل دين وثمة نساء وشباب وأطفال.
– تعطي دورًا مميزًا للشباب، ولحيويته، ولقيمه الراسخة في وجدانه وفي تربيته المنزلية والمجتمعية.
– تستقرئ الرواية آفاق ما سيكون، فتأتي على لسان “أبي أيوب” -الرجل المكلوم بأحداث الثمانينيات بزوجه وابنته- في ردًّه على الشاب مراد الذي يتصور أن العالم لن يسكت عن جرائم النظام الوحشية بما يلي: “هذا العالم الذي تسميه حرًا، تحكمه ثلاثة محافل ماسونية صهيونية، محفل لندن ومحفل باريس ومحفل نيويورك. وكل ما تسمع عن منظمات أخرى كالأمم المتحدة ومجلس الأمن وما لفَّ لفَّها، إنما تأتمر بأمرها، وتنفذ قرارتها. الماسونيون، يا ولدي، هم من جاء بحافظ الأسد إلى حكم سورية، وهم لن يتخلوا عن هذا المغرور الأخرق المسمى بشار.”
– تؤكد الرواية في كثير من مقولاتها القيم الإسلامية -إسلام العامة- الذي هو أقرب إلى النقاء الروحي، وإلى الصدق الإنساني، منهما إلى الإسلام المسيَّس. فتمنح القارئ صورًا مشرقة عن حقيقة الإسلام لا كما صوره تنظيم الدولة أو غيره.
– يستطيع القارئ أن يخرج بانطباع واضح، ومن خلال صور بانورامية، عن البيئة التقليدية في مدينة درعا السورية. عادات وأعرافًا، وقيمًا وطنية واجتماعية مكتسبة بالفطرة.
أخيرًا، وكما أسلفت، قد تنطبق هذه الاستخلاصات العامة في شكلها الفني وفي محتواها أيضًا -محتواها الإنساني والاجتماعي- على رواية أبي قويدر الثانية “إمبراطورية العبيد..” وما يميز هذين العملين كذلك إمكانية تحويلهما إلى أعمال ناجحة، سواء في مجال الدراما أم في السينما. تجدر الإشارة إلى أنَّ رواية “الخبز الأحمر” قد ترجمت إلى اللغة التركية، بينما ترجمت “إمبراطورية العبيد” إلى اللغة الإنكليزية.
* صدرت الروايتان خلال شهر أيار 2016 عن دار نون4 السورية، في غازي عينتاب. إمبراطورية العبيد في مئة وسبعين صفحة، بينما تقع الخبز الأحمر في مئة وخمس وستين صفحة وكلاهما من القطع المتوسط.
[sociallocker] [/sociallocker]