بين نكبة طائرة ونكبة بلد


جيرون

بعد سقوط وتحطّم الطائرة الروسية، التي حملت على متنها نحو 92 شخصًا، منهم أعضاء فرقة فنية عسكرية، من موسيقيين وراقصين ومغنين، ومنهم ضباط، ظهر واضحًا على صفحات التواصل الاجتماعي، وعلى أرض الواقع، حجم الارتياح الشعبي السوري، من سياسيين وصحافيين وغيرهم من العاملين بالشأن العام لوقوع هذه الحادثة.

يُمكن لباحثي علم الاجتماع والسلوك البشري، تفسير هذه المشاعر، ومقارنتها ببُنية المجتمع السوري المتسامح، كحالة تناقضية؛ للوصول إلى النتيجة نفسها التي تحصدها قنابل القتل الروسية، وتشفّيها بما تفعله من تمزيق للحم البشري الأعزل، وتهديم البيوت على رؤوس قاطنيها، وتشكيلها غطاءً جويًا حاميًا لمرتزقة اجتاحوا المدن والبلدات السورية العريقة، فيما تعدّه روسيا نصرًا على التطرّف، دون أن تنظر إلى التطرف الذي تمارسه والنظام السوري وأولئك المرتزقة، ما يمكن عده جرحًا فوق جرح.

عُرف المجتمع السوري، بانفتاحه على كل المجتمعات الشرقية والغربية، وارتباطه السلوكي والمعنوي مع جُلّ الثقافات، ربما بسبب الموقع الجغرافي الذي تتمتع به سورية، حيث جعلها موقعها عُرضةً للغزوات والحروب تاريخيًا، فاختلطت الأقوام والجماعات وتعارفت، واستقر بعضها في هذه البلاد، التي من خلالها أيضًا عبَرت الديانات السماوية الثلاث إلى بقية الأمم، وبهذا تعددت أوجه الصراع التاريخي في المنطقة، التي تناوب فيها الاستقرار الحضاري، ما أدى لتمازج تلك الثقافات للحصول على الثقافة السورية الفريدة.

تختصر ردود فعل السوريين في الساعات التي أعقبت الحادث، حكاية سنة وثلاثة أشهر من العدوان الروسي، بل من المرجّح أنه يتخطى ذلك، ليُراكم أفعال روسيا المُشينة على مدى نحو خمس سنوات وتسعة أشهر من عمر الثورة السورية، التي وقف بوجهها النظام الروسي بكل ثقله، واستهتر بالدماء التي سكبها أبناؤها على طريق الحرية، فلم يخجل من تكرار استخدام حق النقض (الفيتو)، ست مرات متتالية، لمنع حتى وقفٍ جزئي لإطلاق النار، وإدخال مواد إغاثة للمناطق المحاصرة والأسر المنكوبة.

نعم بدا واضحًا حجم الألم الذي زرعه الروس في النفوس السورية، فهم الذين تبنوا مقولة النظام عن ضحايا السلاح الكيمياوي في الغوطة عام 2013، وهم الذين اتهموا كل سوري طالب بالحرية على أنه إرهابي، وهم الذين -حتى اللحظة- يتكلمون باستعلاء ويرفضون مطالبة الناس برحيل بشار الأسد، فتصرفوا بفجاجة قاطع الطرق، أو الحرامي الذي يدخل البيوت عُنوة، ويريدون من المنهوب والضحية أن يُرحّب بهم ويُصفّق لصفاقة سياسة، لا تشعر بأدنى مسؤولية كدولة تعتبر نفسها كبرى.

احتفل الروس سابقًا بفرقتهم الموسيقية على ركام آثار تدمر، بينما أكثر من نصف مليون سوري في عِداد الشهداء، ومثلهم بين مفقود ومعتقل، عدا عن ملايين المُهجّرين قسرًا، في كارثة قيل الكثير عنها، إنها أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية.

أشرف الروس كذلك على التغيير الديموغرافي، حيث جرى تحت رعاية ما سموه مركز (حميميم لتنسيق المصالحة)، ترحيل آلاف السوريين عن بيوتهم، دون أن يرفّ لضباطهم جفن، وهم يُشاهدون بأم العين كيف تُستقدم ميليشيات عراقية ولبنانية وأفغانية وغيرها، وتوطينها في بيوت السوريين، وكيف تشكّل الحزام ذو الصيغة الطائفية حول العاصمة دمشق.

الساحة الحمراء والدم السوري

قصف الروس كذلك مشافي ومدارس الريف الحلبي والادلبي، وقتلوا عددًا من الكوادر الطبية والمرضى فيما ادّعى إعلامهم وسياسيوهم أنها حرب على الإرهاب، وهي مخالفة واضحة لبنود اتفاق روما، ولميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

وثّقت (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، في تقرير لها حمل عنوان “الساحة الحمراء في روسيا تُصبغ بالدم السوري”، عرضته بعد نحو عام من التدخل الروسي، أي في آب/ أغسطس الماضي، وبيّنت فيه “مقتل 746 طفلًا، و514 امرأة”، من أصل “2704 مدني”.

كما أحصى (المعهد السوري للعدالة) مقتل 21 طبيبًا ومسعفًا بسبب الغارات الروسية خلال عام، وكذلك مقتل 12 من الهيئات الإغاثية، و13 عنصرًا من الدفاع المدني، و7 نشطاء إعلاميين.

يمكن إيراد مثال آخر على عدد ضحايا المجازر، التي ارتكبتها القوات الروسية، خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2016 فقط، حيث بلغ 179 شخصًا بحسب (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، بينهم 48 طفلًا، و29 سيدة، بالمقابل بلغ عدد الضحايا على يد تنظيم الدولة (داعش) للفترة نفسها 35 شخصًا بينهم 10 أطفال، فيما كان ضحايا قوات النظام الذي تُدافع عنه روسيا، 106 أشخاص، بينهم 44 طفلاً، و19 سيدة.

إن ردود الفعل التي أبداها السوريون على مقتل أولئك الروس، القادمين للاحتفال بتغوّل آلتهم العسكرية بدماء الأبرياء السوريين، ليست سوى مرآة لحجم الألم الذي خلّفه ذلك التعامل الروسي، المُنفلت من القيم والقانون، أو أي معايير تحكم علاقات البشر مع بعضهم بعضًا، فما زالت قائمة حتى الآن، مناظر العائلات التي غادرت بيوتها من أحياء حلب الشرقية، في ظل عاصفة ثلجية باردة جدًا تجتاح المنطقة، حيث افترشت هذ العائلات الأرض بالعراء، دون أي وسائل حماية تقيها البرد والثلج، مع وفاة عدد من الأطفال والمرضى بسبب البرد، فيما الروس يتغنون بالانتصار على هؤلاء المنكوبين الذين غادروا أحلامهم وأمانيهم وبيوتهم، مع غياب كامل للعدالة الدولية.

ما ظهر في وسائل التواصل عن تلك الحادثة، ليست شماتة السوريين، فالسوريون عاشوا النكبات ويُدركون آلامها، ولكنها صرخة يجب أن يفهمها الروس، ويدرسونها جيدًا في ميزان سياساتهم الخرقاء، واعتمادهم على غرف الأمن، ووقوفهم بجانب الدكتاتوريات البغيضة، التي ثارت الشعوب للتخلص منها. لا بد لهم من قراءة ما راكمه قتلهم للسوريين، وما فعله تدخلهم من تغييرات على مشاعر شعب، كان يعتبر نفسه، للأمس القريب، صديقًا للشعب الروسي، فأبت سياسة فلاديمير بوتين، إلا أن تطحن مشاعره مع لحمه المتناثر، مع حطام بيوته، فيما أعلن عنه بوتين أنه، تدريب غير مُكلف لجنوده على أرض بلد يُعد مركز الحضارات التاريخية، وبين نكبة طائرتهم ونكبة بلد اسمه سورية، هل يُراجع الروس سياساتهم، أم سيغرقون أكثر في وحل الجريمة.




المصدر