مصر التائهة في معادلات الشرق الأوسط الجديدة

28 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016

30 minutes

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أوّلًا: الثورة المغدورة وعودة مصر إلى حظيرة العسكر

ثانيًا: دافع الحاجة في العلاقات السعودية المصرية الهشّة

ثالثًا: موقف مصر من الثورة السورية

رابعًا: هامشية مصر في معادلات النفوذ التي يُعاد صوغها

خاتمة

مقدمة

يبدو أن مصر التي طالما نظر إليها العرب على أنها عمود الأمة، والحائط الذي يمكن الاستناد إليه بثقة، نظرًا إلى موقعها في واحد من أهم المواقع الجيوسياسية في العالم، وثقلها التاريخي والديموغرافي، تمرّ هذه الأيام بأسوأ مراحل ضعفها؛ فهي اليوم ضعيفة في إمكاناتها حيث تتناهبها الأزمات، وهي ضعيفة في نظرتها إلى نفسها وإلى دورها في الإقليم، أو على مستوى العالم، وهي تبحث عن هذا الدور، لكنها لا تعلم أين وكيف تضع قدمها على الطريق نحو الهدف.

في هذه المرحلة الخطِرة من تاريخ الشرق الأوسط الذي عصفت به ثورات الربيع العربي، حيث يُعاد رسم خرائط ومعادلات النفوذ والقوة دوليًا وإقليميًا، تجد مصر نفسها على الهامش، لا تملك جرأة الاقتحام لانتزاع دور لها، ولا تاريخها يسمح لها بأن تركن جانبًا، وتُسلّم بالوضع الذي أخذتها إليه سلطاتها المتعاقبة، لذلك تراها متعجلة في عقد التحالفات، وسريعة في النكوص عنها، ثم يتبين أنها كانت تحالفات هشة وموقّتة، وتفتقر إلى إستراتيجية واضحة؛ الشيء ذاته ينطبق على محاولاتها للتدخل في ليبيا أو اليمن أو حتى سورية. فهل تدفع مصر ضريبة الحكم العسكري المتحكّم بها منذ عام 1952، والذي أحالها- كما أحالت النظم العسكرية البلدان التي تحكمت فيها- إلى التهميش والخراب؟ أم أن مصر مُكبّلة باتفاقات كامب ديفيد 1979، مع إسرائيل التي لا تُتيح لها فكاكًا ولا حراكًا؟ أم الأمرين معًا؟

أوّلًا: الثورة المغدورة وعودة مصر إلى حظيرة العسكر

يُسجّل لشعب مصر أنه قاد واحدة من أهم الثورات السلمية في العالم الثالث، ثورة أطاحت بحكم مبارك الذي استمرّ ثلاثة عقود وأنهك مصر بفساده، ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، التي فاجأت وأربكت الغرب وإسرائيل والنظام المصري، شارك فيها أكثر من خمسة ملايين متظاهر في ميدان التحرير والميادين والساحات المتفرّعة عنه، إضافة إلى ملايين أخرى في عموم المدن المصرية، ضمّت شباب مصر وقواها المدنية، وتشكيلاتها السياسية المختلفة من ليبرالية وقومية ويسارية، إلى جانب قوى الإسلام السياسي على تنوعها. ومن المعروف أن الجيش المصري وقف حينها على الحياد ولم يُواجه المتظاهرين، وهو موقف ما زال محطّ تساؤل، ذلك أنه الجيش ذاته الذي يُنكّل بالمصريين شرّ تنكيل منذ انقلابه في 3 تموز/ يوليو 2013.

تضافرت ثلاثة عوامل؛ اثنان منها داخليان وثالث خارجي، أتاحت للجيش المتحيّن للفرص العودة، والقبض بدموية على مفاصل السلطة، ووأد الثورة وحلم المصريين بالتغيير. يتلخّص العامل الأول بأن قوى الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي، وحّدت قواها، تكتيكيًا على الأقل، وفازت في الانتخابات الرئاسية بعد انقضاء الفترة الانتقالية التي قاد فيها الحكم مجلس عسكري لمدة ثمانية عشر شهرًا، وكانت قد فازت بأغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية التي سبقتها. وقد أظهر الإخوان المسلمون -الذين حكموا بموجب إعلان دستوري صاغوه على مقاسهم-  شرهًا فظيعًا للسلطة، وتسرّعوا بأخونة الدولة المصرية، وأقصوا الآخرين، ما أثار شكوكًا عميقة في مدى التزامهم قواعد الديمقراطية التي أوصلتهم إلى السلطة، ليس لدى الدول الخارجية المعنيّة بمتابعة الأوضاع في مصر فحسب، بل لدى شركائهم في الثورة من بقيّة الفعاليّات المصرية التي باتت تتهيّأ للعمل من أجل استعادة الثورة، حيث ولّدت تصرفات الإخوان لديهم شعورًا بأن الثورة سُرِقت، أو هي آيلة إلى هذا المصير.

العامل الداخلي الثاني تمثّل في تشتّت القوى المقابلة لقوى الإسلام السياسي، من ليبراليين وقوميين ويساريين وعلمانيين ومنظمات مجتمع مدني، وعجز هذه القوى عن توحيد نفسها. فخلال ثمانية عشر شهرًا فشلت اللجنة التشريعية في إنجاز مشروع دستور، بسبب خلافاتها مع الطرف الإسلامي وخلافاتها فيما بينها؛ وعندما حان وقت الانتخابات فشلت في تقديم مُرشّح حقيقي يُمثّلها.

أما العامل الخارجي؛ فهو ذلك الذي تمثّل بالخوف من الإسلام السياسي عامة والجهادي خاصة، والتي تتعمّد الإسلاموفوبيا الخلط بينهما. كما أن الغرب الذي فاجأته الثورة المصرية، كان قد أخذ الوقت الكافي للتصرّف. وشاركت السعودية ودولة الإمارات، على وجه الخصوص، الغرب هذا الموقف من الإخوان. وهكذا ساعد العامل الخارجي في دعوة قوى الداخل لما دُعي بـ “الثورة الثانية” التي انطلقت في بداية الشهر السابع 2013، وشهدت بعد ثلاثة أيام من انطلاقها تدخّل الجيش الذي اعتقل الرئيس المُنتخب وقمع الجميع، وقاد وما زال حملة دموية لتصفية الإخوان وأنصارهم الذين زُجَّ بالآلاف منهم في السجون، وطالت عمليات التصفية والقمع آلافًا أخرى، واختفت القوى التي قادت الثورة الثانية، أو انحازت إلى حكم العسكر. وهذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي تنحاز فيها قوى مجتمعية، بدافع الخوف، ضد مصالحها، وبما يناقض أيديولوجياتها ويُعاكس مسار التقدم التاريخي. والنتيجة التي رست عليها الأمور، حتى الآن، أن ثورة مصر قد غُدِرَت، وأن مهمة الحكم العسكري الذي يقوده السيسي- وربما المهمة الوحيدة- هي تصفية واجتثاث الإخوان والإسلام السياسي من حقل السياسة المصري، تحت مُسمّى مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يُنذر باحتمال نشوب حرب أهلية مصرية صعبة لن تقتصر آثارها على مصر وحدها.

ثانيًا: دافع الحاجة في العلاقات السعودية المصرية الهشّة

يُدرك المصريون جيدًا حاجتهم إلى دول الخليج التي يوجد فيها مئات الآلاف من المصريين العاملين -منذ “الفورة النفطية” في السبعينيات- الذين يرفدون الخزينة المصرية سنويًّا بمليارات الدولارات من تحويلاتهم، كما أن المساعدات الخليجية لما كان يُعرف بدول المواجهة، ومنها مصر، شكّلت على الدوام مصدرًا مهمًّا في تغطية عجزها الاقتصادي المزمن، إضافةً إلى المساعدات الطارئة عند المنعطفات الخطرة التي هزّت الخليج أكثر من مرة إبّان الحرب العراقية- الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، أو في مرحلة المدّ التي يشهدها المشروع التوسّعي الإيراني في هذه الأيام، في العراق وسورية واليمن، وقبلها ومعها في لبنان. يُدرك المصريون أيضًا حاجة الخليجيين الماسّة إلى دعمهم، نظرًا إلى إمكانات مصر العسكرية، وثقلها السكاني في مواجهة الخطر الإيراني الذي يتهدّدهم. غير أن هذا الإدراك المتبادل لم يُفضِ يومًا إلى علاقات راسخة، أو تحالف استراتيجي يُمكن الركون إليه، لا بل إنه ولّد لدى الخليجيين شعورًا مريرًا ومكبوتًا بالابتزاز الذي يُمارسه المصريون، وبالمداورة والتفنّن في إخراج هذه اللعبة.

في هذا السياق، تبدو متابعة تطور العلاقات السعودية- المصرية، في مرحلة التحولات والصراعات التي رافقت ثورات الربيع العربي، كافية لإعطاء صورة واضحة عن مجمل العلاقات المصرية- الخليجية، حيث تتحمّل السعودية العبء الأكبر في هذا المجال، لإمكاناتها ودورها في منظومة الأمن الخليجي وفي المنطقة عمومًا.

يتشارك السعوديون والمصريون، ولكلٍّ أسبابه: الخوف من صعود الإسلام السياسي الذي شهدته، بمعنى ما، ثورات الربيع العربي. وليس أدلّ على ذلك من أن العلاقات السعودية- المصرية لم تشهد أي تطورات مهمة في مرحلة حكم مرسي، حيث كان هناك شبه تجاهل سعودي، لا بل عمدت بعدها السعودية والإمارات إلى اتخاذ قرار بتصنيف حركة الإخوان المسلمين تنظيمًا إرهابيًّا، كما لم تُخفِ السعودية دورها وحماستها في انقلاب السيسي، وهذه نقطة خلاف علنيّة بين السعودية وقطر التي تُساند تيار الإخوان بشكل عام لأسباب تتعلق بالدور الذي اختطته قطر لنفسها؛ وأغدقت السعودية والإمارات والكويت أربعة عشر مليارًا من الدولارات مساعداتٍ متنوعة للاقتصاد المصري المترنّح.

ظهر الخلاف السعودي- المصري إلى العلن بعد أن صوّتت مصر في جلسة مجلس الأمن التي عُقدت في 8 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إلى جانب مشروع قرار روسي حول الأوضاع في حلب، وسقط القرار لأنه لم يحصل إلّا على أربعة أصوات أحدها صوت المندوب المصري؛ وكانت مصر صوتت قبله في الجلسة نفسها، في تناقض وإرباك واضحين، إلى جانب مشروع قرار فرنسي أسقطه فيتو مزدوج روسي- صيني، هذا الموقف وُوجِه بردٍّ لاذع من مندوب السعودية في الأمم المتحدة الذي قال “من المؤسف أن يكون موقف ماليزيا والسنغال أقرب إلينا من موقف مصر”، في حين ذهب المصريون في تبريرهم هذا الإرباك، مقدّمين عذرًا أقبح من ذنب، إلى أنهم صوتوا على “الجوانب الإيجابية في كلا القرارين”.

عمومًا، يتحاشى المسؤولون المصريون التصريحات العلنية في حملة المهاترات المحتدمة بين البلدين، تاركين هذه المهمة لوسائل الإعلام المصرية وبعض دبلوماسييهم المتقاعدين، ربما لأنهم لا يريدون أن تتدهور العلاقات إلى أكثر من ذلك، أو حفظًا لخط الرجعة.

تتركز الخلافات السعودية المصرية في ملفّين رئيسين، إضافة إلى بعض القضايا الأخرى الأقلّ شأنًا، الملفّ السوري، والموقف من حرب اليمن. بالنسبة إلى اليمن، شعرت السعودية بطعنة إيرانية عميقة في خاصرتها الجنوبية، كما شعرت بخطر إيراني داهم يُهدّدها، يختلف عن ذلك الذي شعرته إبّان تدخلها في البحرين عام 2011، وذلك بعد انقلاب الحوثيين على الشرعية اليمنية -بمساعدة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الذي انقلب على المبادرة الخليجية، بعد أن بقي يُحكم سيطرته، بعد رحيله، على الجيش والحرس الجمهوري وحزب المؤتمر الشعبي- وبسط سيطرتهم، وصالح، على معظم الأراضي اليمنية في غضون أشهر. عندئذٍ، سعت السعودية إلى تشكيل تحالف من “الدول السنّية” المنتظمة في منظمة التعاون الإسلامي بشكل أساسي، ومنها مصر التي أعلنت انضمامها إلى هذا التحالف الذي قادته السعودية وبدأت حربها في اليمن منتصف آذار/ مارس 2015. لكن مصر، كما الباكستان، تلكأت في المشاركة الفعلية في هذه الحرب التي ما زالت مُستعرة ومفتوحة، في مواجهة تحكّم الحوثيين وحليفهم صالح في اليمن، اللذين يمتلكان قوة وازنة، ويعتمدان على قبائل كبيرة ودعم إيراني واسع بالمال والسلاح والخبرات العسكرية، وربما يحوزان دعم أطراف أخرى غير مُعلنة.

يُبرّر المصريون تلكؤهم وعدم انخراطهم في الحرب اليمنية، وهو ما كانت تُعوّل عليه السعودية في تأمين حسم سريع للحرب، بأن الملك سلمان، وعلى عكس سلفه الراحل الملك عبد الله، غير مبدئي في مواقفه من الإخوان المسلمين، وهم هنا يُلمّحون إلى محاولة السعودية دفع حزب الإصلاح اليمني الإخواني الهوى للانخراط في معارك تعز المتعثرة، كونَها مفصلية في مسار الحرب، وكونَه يملك وجودًا قويًا في هذه المحافظة. التذرع المصري هذا يُسانده موقف إماراتي متشدّد لجهة رفض أيّ مشاركة للإخوان في هذه الحرب، وهو ما يمنع حزب الإصلاح من المشاركة حتى الآن. في جميع الأحوال، يبدو الموقف المصري، في جوهره، تعبيرًا عن تردّد مصر في أن تضطلع بأي دور في القضايا الإقليمية الساخنة، ما يُضعف ثقة الآخرين في توجهاتها وتحالفاتها، وما كتبته صحيفة الأهرام الرسمية يُعبّر خير تعبير عن حقيقة الموقف المصري، حين تساءلت “هل تعرفون صراعًا إقليميًا واحدًا تبنّت القاهرة والرياض رؤية موحدة تجاهه؟”. هذا الموقف ترك ندبة أليمة وشعورًا بالخذلان لدى السعوديين الذين أخذوا يشعرون بأن هناك من يريد استنزافهم في اليمن، من دون أن يأخذ هواجسهم تجاه الخطر الإيراني على محمل الجدّ، ومن هؤلاء النظام المصري.

أما بالنسبة إلى الملف السوري؛ فمن المعروف أن السعودية، ومعها قطر، وفي درجة أقل الإمارات والكويت، كان لها موقف واضح من النظام السوري، وكانت داعمًا فعالًا للثورة السورية منذ نهاية العام 2011. ولا يُخفي الخليجيون أن ما يربطهم بالثورة السورية ليس شعاراتها ومطالبها بالحرية والكرامة، ولا إقامة نظام ديمقراطي في سورية، بل الخوف من التدخل الإيراني الكثيف في الصراع السوري، إلى جانب النظام بوساطة الحرس الثوري وعشرات الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران، في إطار مشروعها التوسعي في المنطقة، وما يمثله من خطر مستقبلي ووجودي على دولهم وأنظمتهم، إضافة إلى التعاطف الإنساني مع مأساة السوريين، وما يتعرضون له، وربّما أيضًا تجربتهم السيئة مع النظام السوري في لبنان. وقد قدّمت السعودية جميع أشكال الدعم العسكري والمادي والسياسي بقدر ما سمحت به السياسة الأميركية، كما عزّزت علاقاتها بتركيا للأهداف ذاتها، إلى درجة تُقارب التحالف، وهي الداعم الآخر للمعارضة السورية، كما كان للسعودية دورٌ أساسي في تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات التي انبثقت من مؤتمر الرياض في 8 كانون أول/ ديسمبر 2015، بتكليف من مؤتمر فينيا 2، كممثلة للمعارضة السورية.

الموقف المصري من الثورة السورية كان مختلفًا، فهو يستبطن انحيازًا للنظام بدعوى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. هذا الموقف خرج إلى العلن منذ انقلاب السيسي في تموز/ يوليو 2013، مع علمنا أنّ مصر استقبلت أعدادًا كبيرة من اللاجئين السوريين، وما زالت معاملتها لهم ضمن الإطار المقبول قياسًا إلى معاناتهم في لبنان والأردن والمضايقات التي يتعرضون لها؛ كما سهّلت بعض اجتماعات المعارضة السورية في بعض المراحل، ثم قصرت تسهيلاتها على جزء من المعارضة عرفت بـ “منصة القاهرة” والتي تتبنّى خيارات مختلفة عن خيارات الائتلاف أو هيئة التفاوض. وعلى العموم، أصبحت مصر أقرب إلى الطروحات الروسية بخصوص الحلّ السياسي الذي يريد الإبقاء على الأسد ومؤسّستيه العسكرية والأمنية، خلافًا لما نصّ عليه بيان جنيف 1 لعام 2012.

التباعد في المواقف والرؤى من الملف السوري بلغ حدّه الأقصى بتصويت مصر في مجلس الأمن إلى جانب القرار الروسي في جلسة 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وكان “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”.

هناك قضايا خلافية أخرى تُعكّر العلاقات السعودية- المصرية، منها قضية جزيرتي تيران وصنافير الصغيرتين الواقعتين في مدخل مضائق تيران، وكان الملك عبد العزيز عهد بهما إلى مصر في عهد الملك فاروق عام 1950، بعد أن احتلت إسرائيل صحراء النقب وأقامت ميناء إيلات، لأن المملكة لم تكن لديها القدرة على حمايتهما حينذاك؛ وتسعى السعودية إلى استعادتهما في إطار تسوية آخر نزاعاتها الحدودية؛ ولا يُنكر المصريون حقّ السعودية في الجزيرتين وسيادتها عليهما، ويدّعون أنهم يحاولون إعادتهما إليها منذ العام 1985، وكان قد وُقّع اتفاق لإعادتهما عام 2010 في عهد مبارك وتعثّر الأمر حينذاك بسبب الثورة المصرية وسقوط مبارك؛ وفي أثناء زيارة الملك سلمان إلى القاهرة في نيسان/ أبريل الماضي، جرى توقيع اتفاق لإعادتهما إلى السعودية، إلا أن ضجّة إعلامية مصرية مُفتعلة حملت اتهامات ببيع مصر مقابل الدولارات، وانتهت باستصدار قرار قضائي بوقف تنفيذ الاتفاق بناءً على دعوى مُقدّمة من محامين مصريين؛ وينظر السعوديون إلى الضجّة الإعلامية والقرار القضائي على أنهما زوبعة مُفتعلة بدفع من النظام المصري للتملّص من الاتفاق.

في جوهر الموضوع، الجزيرتان مشمولتان باتفاقية كامب ديفيد، وفيهما مرصد أميركي لمراقبة تنفيذ الاتفاقية وترتيباتها الأمنية، ودون موافقة أميركا وإسرائيل لا تستطيع مصر إعادتهما، والسعودية تعرف ذلك، خاصة أنها ترفض أن تكون طرفًا في الترتيبات الأمنية بين مصر وإسرائيل.

قضية أخرى طارئة في مسار العلاقات المتوترة بين البلدين ظهرت إلى العلن في إثر البيان الذي صدر عن مؤتمر غروزني الذي دعا إليه رمضان قاديروف، الرئيس الشيشاني، وحضره شيخ الأزهر أحمد الطيب، وأخرج بيانه الختامي الذي صدر بعنوان “من هم أهل الجماعة والسنة” الجماعات السلفية من توصيف أهل السنة والجماعة، ومنها المذهب الوهابي الذي تعتنقه السعودية، ما أثار حفيظة مشايخ السعودية الذين استغلوها في مهاجمة شيخ الأزهر أحمد الطيب.

قد يكون مفهومًا أنه من غير الممكن أن تتفق الدولتان حول جميع القضايا والملفات، لكن اللافت إيقاع التوتر المتسارع في علاقاتهما؛ ويُرجّح أن السعودية تخشى فراغًا إستراتيجيًا يتهدّده الخطر الإيراني في ظِلّ برودة علاقاتها مع الولايات المتحدة، حليفها التاريخي، وفقًا لعقيدة أوباما التي تتظاهر بالانكفائية، وكانت تُعوّل على مصر في ملء هذا الفراغ، في حين أن مصر غير راغبة، وربما غير قادرة على القيام بأعباء مثل هذا الدور، لكنها بكل تأكيد تريد أموال الخليج.

في هذا السياق، يرى بريان كاتوليس، من معهد التقدم الأميركي أن مصر تحاول إرسال إشارات إلى حلفائها السعوديين، تقول فيها إنها مستقلة في مواقفها الإقليمية، وتحاول بناء توازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، وليست متحالفة بالمطلق مع دول الخليج أو إيران. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا حول المدى الذي يُقارب فيه السيد بريان الحقيقة على فرض وجود مثل هذه الإشارات؟ وهل تستطيع مصر إقامة توازن في علاقاتها ما بين روسيا والولايات المتحدة، وجيشها يتلقى مساعدات عسكرية أميركية قدرها مليار دولار سنويًا منذ العام 1979، وغيَّر عقيدته العسكرية، ويتم تدريبه من جانب الولايات المتحدة؟

 

ثالثًا: موقف مصر من الثورة السورية

من المتوقع ألا تتحمّس مصر الخارجة من ثورة -بعد أن دخلت في ثورة مضادة تتمثل بالحكم العسكري الذي تمكّن من القبض على مفاصل السلطة منذ 3 تموز/ يوليو 2013- لأي ثورة، إذ من البداهة أن حكم العسكر تقلقه قضية الشرعية التي يفتقدها، وتفتقدها الأنظمة الأخرى في بلدان الثورات العربية.

بيّنت التجربة أن الموقف المصري في عهد السيسي ينبني في جوهره على مناصبة الثورة السورية العداء غير المعلن، ويُحابي النظام، ويعود هذا الموقف في الجزء الأكبر منه إلى أن الأنظمة العسكرية التي سادت في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستقلال، تتبادل الحرص على مصيرها وديمومة سيطرتها وعلى الأدوار المنوطة بها، وهذا يوافق الإستراتيجيات الدولية المتحكّمة في المنطقة. وليس بعيدًا عن الدلالة في هذا السياق اشتراط عبد الناصر على زياد الحريري، قائد الانفصال عن دولة الوحدة عام 1961، عدم تسليم السلطة للمدنيين لقاء اعتراف مصر بحكم الانفصال. كذلك يجهد السيسي في الدفع بخليفة حفتر إلى سدّة السلطة في ليبيا. جانب آخر يحضر في الموقف المصري، هو ذاك المتمثل في العمل على تقويض أي دور للإسلام السياسي الذي يناصبه العداء، وفي هذا السياق ينبني موقفه من الثورة السورية التي يتهمها بالأسلمة، خاصّةً أنه يجمع الإسلام بجميع تلاوينه وتوجهاته في جراب الإرهاب.

أكّد السيسي في مقابلة له مع صحيفة برتغالية، نقلتها وكالة الشرق الأوسط في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أنه “من الأولى دعم الجيوش الوطنية في سورية وليبيا بدلًا من الاستعانة بقوات من الأمم المتحدة”، وعلى الرغم من أن التدخل الأممي حاصل في ليبيا ولم يحصل في سورية، إلا أن مصر لم تستطع التدخل العسكري في ليبيا، وعلى الأرجح أنها لن تستطيعه في سورية إلا في إطار حلّ سياسيّ ترعاه الأمم المتحدة، وتوافق عليه الدول المؤثرة في الصراع السوري، وما يُقال عن وجود ثمانية عشر طيارًا مصريًا من طياري المروحيات في مطار حماة، يُشاركون في فعاليات النظام الجوية على ما نقلت صحيفة السفير اللبنانية في 25  تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، يُرجّح أن يكون بالونًا إعلاميًّا من النظام السوري فحسب، يندرج في إطار الرغبات لا أكثر، ذلك أن الخارجية المصرية نفت هذا الخبر في بيان رسمي، لكن يمكن الحديث عن تنسيق أمني عالٍ، تؤكده الزيارة غير المعلنة التي قام بها علي مملوك رئيس جهاز الأمن الوطني السوري إلى القاهرة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

يُوضّح الباحث الزائر مايكل وحيد، في مؤسسة القرن في نيويورك، موقف السيسي بما يُسميه “مبدأ السيسي” الذي يقوم على “تأييد الدولة الوطنية”، والمقصود بها هنا الدولة القُطرية، والدفاع عن سيادة الدولة داخل حدودها الوطنية، ومن ثم الوقوف بصلابة في مواجهة النزعات الإسلامية، وبالصلابة نفسها في مواجهة التطرف والتعصب، كما يجهد مايكل وحيد، بتدعيم هذا المبدأ بمبدأين آخرين مكمّلين، أولهما مبدأ ضمان حقوق الأقليات عند وجود أغلبية كبيرة كالسنّة في سورية، حتى لا تؤول الأمور إلى ما آلت إليه في العراق، عندما حكم الشيعة، والثاني ضرورة توافر درجة مقبولة من اللامركزية في الحكم، ليخلص إلى القول إن المحافظة على وحدة الدولة وسيادتها، يجب ألا تغبن حق مكوناتها، ولأنه لا يمكن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه.

في جميع الأحوال، ما ذهب إليه هذا الباحث، وبعيدًا عن البعد الترويجي للسيسي الذي تضمّنه مقاله، يدفعنا إلى ملاحظة أنه لم يبدر من السيسي، ومنذ تولّيه السلطة، ما ينمّ عن قدرات عقيدية أو إستراتيجية، لا على المستوى السياسي ولا العسكري؛ وعلى الأرجح أن الباحث يخاطب الإدارة الأميركية ويحذرها من الوقوع في أخطاء كالتي وقعت فيها في العراق، عند تصدّيها لإنضاج حلّ سياسي للصراع في سورية، يتوقع حصوله.

يتركّز الجهد المصري في مساعدة النظام السوري في إطار العمل السياسي والدبلوماسي؛ فمصر عارضت على الدوام نزع شرعية تمثيل سورية في جامعة الدول العربية من النظام، ونقلها إلى المعارضة السورية ممثلة بائتلاف قوى الثورة والمعارضة، بل منعت ممثلي الائتلاف من حضور جلسات جامعة الدول العربية المتعلقة بسورية؛ وهي تضيّق على أغلب المعارضين السوريين في الدخول والخروج من وإلى مصر أو الإقامة فيها منذ العام 2015، لكنها سهّلت في مراحل سابقة اجتماعات المعارضة ومؤتمراتها، وقصرتها مؤخرًا على ما يعرف بـ “منصة القاهرة” التي تضم قوى خارج الائتلاف، وتتبنى حلولًا تتقارب مع الموقف الروسي أو الإيراني للحلّ الذي يقوم على تشكيل حكومة موسعة برئاسة الأسد، والضرب صفحًا بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بدءًا ببيان جنيف 1 في عام 2012، والقرارين 2118 و2254 للعامين 2013 و2015 تواليًا، وتنصّ جميعها على قيام هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتفترض بداهة عدم وجود دور للأسد. الموقف المصري هذا الذي يُناكف تركيا ويُزعج السعودية، لا يبدو أنه يضير أميركا في شيء.

 

رابعًا: هامشية مصر في معادلات النفوذ التي يُعاد صوغها

هزّت ثورات الربيع العربي التي اجتاحت في زمن قياسي عددًا من الدول العربية “استقرار” النفوذ الذي أرسته اتفاقية سايكس- بيكو، حصيلةً لنتائج الحرب العالمية الأولى. فهي المرة الأولى التي تثور فيها شعوب المنطقة على الواقع الذي تعيشه من إفقار واستبداد وعطالة، طوال قرنٍ من الزمن ضائع على أهلها، رَدْحٍ منه في الانتدابات المباشرة، وآخر في الوكالة تكفّلت به الأنظمة التي سادت، على تنوع أيديولوجياتها وتركيباتها.

على المستوى الدولي، تسود حالة تململ وتأهب لدى الدول الصاعدة على المسرح من الواقع الذي آلت إليها خرائط النفوذ عالميًا، بعد انهيار الشيوعية، وتوسع العولمة والتجارة الحرة، وتحديات الإرهاب المعولم والمناخ، أما على المستوى الإقليمي، فهناك اندفاعة كبيرة لمشروع توسّعي إيراني يعمل على ترسيخ نفوذ وهيمنة إيرانيتين على منطقة شرقي المتوسط، يُقابلها قلق تركي، وتوجّس وجودي عربي بسبب حالة الانهيار التي يشهدها الواقع العربي منذ عقود.

تدويل المسألة السورية التي عمل عليها النظام منذ الأشهر الأولى للثورة، أوصل الحالة السورية، بعد أن تدخّلت فيها جميع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، إلى درجة من التعقيد أخرجها من يد السوريين نظامًا ومعارضة على حدّ سواء. وكلّ صراع من هذا النوع لا بدّ له في النهاية من أن يرسو على حلول وتسويات وتوزيع للنفوذ، تحدّدها موازين القوى الفاعلة على الأرض في تقاطعها مع موازين القوى على المستوى الدولي والإقليمي. وكي تسود حالة الاستقرار، لا بدّ أن يكون هذا التوزيع مقبولًا محليًا ودوليًا حتى لو استدعى أمر تثبيته صراعات جانبية أخرى.

في الواقع الذي وصلت إليه الحالة السورية، يلوح على المستوى الإقليمي أربعة أطراف معنيّة بتقاسم النفوذ (إسرائيل، إيران، تركيا والعرب). وبما أن حصة إسرائيل ستكون الكبرى، وهي محفوظة بإجماع الأطراف الدولية الفاعلة، فإن تركيا المشغولة بوضعها الداخلي المضطرب، والمربكة بعلاقاتها المتوترة مع الغرب، ليست في وضع يسمح لها بهزّ الطاولة كثيرًا، وعليه سيكون الباقي من “البيدر” بين إيران والعرب، إذا أُريد للمنطقة أن تستقر. لكن السؤال المشروع يتمحور حول موقف الغرب من الاندفاعة الإيرانية المنفلتة، فهل سيعمل الغرب قريبًا على تقليم أظافر إيران؟ الترجيح المنطقي نعم، لكن هذا يتوقف بشكل أساسي على التسويات التي ينتظرها الروس مع الغرب في ملفّاتهم الكثيرة والشائكة، وفيما إذا كانت مثل هذه التسويات ستنضج أم لا.

اشتداد حدّة الصراع في سورية وعليها، وكونها أصبحت رائزًا للإرادات الدولية، هذا بحدّ ذاته مؤشر على احتمال اقتراب الصراع من نهاياته. ويبقى السؤال حول دور العرب، وبخاصة مصر، في هذه المعمعة؟ فالدور المصري المطلوب، أقلّه ما تتطلبه ضرورات الأمن الوطني المصري، ما زال غائبًا، وهذا الغياب يعود، في أغلبه، إلى فقدان إرادة الدور والمكانة. صحيح أن جميع التحالفات التي تشهدها المنطقة في هذه المرحلة آنية وقلقة ولا يمكن البناء عليها، لكن المقتل في السياسة المصرية ينبع من زاوية النظر الضيّقة التي تتحكّم في هذه السياسة، وتنبني فحسب على “الإخوان فوبيا”، وتجعل مصر غير مكترثة بالخطر الإيراني، وغير عابئة بهواجس الخليجيين، وتناصب تركيا العداء بدافع علاقة الأخيرة مع الإخوان، وهذا كلّه لم يكن متوقعًا في سياسة دولة في أهميّة مصر؛ في حين أن السعودية، القطب العربي الآخر، التي تنوء تحت ثقل حربها في اليمن واشتباكها في سورية وغيرها من صراعات المنطقة، فشلت جميع محاولاتها في جذب مصر إلى صفّها، كما أن تحالفها مع تركيا لم يرسخ بشكل مطمئن بعد، وهي لم تنجح في تسوية الخلاف التركي- المصري، ويأتي هذا كله في ظل شعورها بانكشاف الظهر في علاقتها مع أميركا حليفها الإستراتيجي.

خاتمة

تنوء مصر تحت ثقل واقعها الاقتصادي المنهار، وهي مشغولة بوضعها الداخلي المهزوز بعنف منذ عودة العسكر إلى الحكم، ومُكبّلة بإلزامات اتفاقية كامب ديفيد غير المُعلنة؛ وتبقى المشكلة الأكبر في استرخاء مصر تجاه هذه التحديات، وانكماشها وتردّدها في محاولة الخروج من هذه الحالة الخطرة على مستقبلها ومستقبل العرب أيضًا. ولا شكّ في أن خروج مصر من هذه الحالة يتوقف بالدرجة الأولى على إرادة شعبها وعلى تطورات الصراع في المنطقة؛ ومن غير المفيد للعرب اليأس من وضع مصر، وعليهم العمل الدائم على مساعدتها في الخروج منه، كما أن على المعارضة السورية أن تستمر في محاولة تعديل موقف مصر من قضيتها، مهما واجهت من صدود، ذلك أن مهمة المعارضة الأساسية في جميع ثورات العالم هي شرح عدالة قضيتها لكسب الرأي العام العالمي، وتغيير مواقف حكومات الدول ذات العلاقة، ولا شكّ في أن مصر مهمة لمستقبل سورية والسوريين.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]