الهوية المفتوحة والذاكرة بين الماضي والحاضر… أسئلة الثقافة الفلسطينية… مَن يروي الحكاية؟


هل تستطيع الكتابة قراءة المنفى، أم صارت هي أيضا أحد أشكاله؟ كيف نقرأ النتاج الثقافي بصفته أفقا محتملا، في هذه الأيام التي يمر بها المشرق العربي، حيث يمتزج الدم بالأسى، والخراب بالموت، وتعلو استغاثة اللاجئين، ويصير منفانا مزدوجا، بعضنا منفي داخل بلده، وبعضنا الآخر منفي خارجه، كأن هذا الانحدار العربي إلى الهاوية لا قعر له؟

هل فقدت الكلمات بريق المعنى، وسط هذا الانتهاك الشامل للمعاني الإنسانية؟

صعوبة الكلام اليوم نابعة من شعور عام بالفشل والإحباط يعمّ الوسط الثقافي والفكري، هنا في سورية ولبنان، وهناك في فلسطين. والـ «هنا» والـ «هناك» ليسا بعيدين مثلما اعتقد كثيرون مع انفجار موجة الثورات العربية التي وأدها التحالف العدائي بين الاستبدادَين العسكري والأصولي، فما يجري اليوم في سورية أصاب الفلسطينيين ودمر مخيماتهم، وما يجري في لبنان من قمع للاجئين السوريين يضع جميع اللاجئين والغرباء في موقع واحد. والانسداد السياسي الذي عزل الثقافة الديمقراطية عن الفعل في لبنان، يجد داخل الأراضي الفلسطينية ما يشبهه.
كيف نقرأ واقعنا الثقافي وبأي أدوات؟

هل الثقافة مجرد شاهد يسجل المآسي في كلمات أو لوحات أو عروض، أم هي جزء من البنية الأساسية التي تصوغ الوعي، وتواجه الكارثة عبر محاولة رسم أفق جديد؟
الجواب عن هذه الأسئلة بالغ الصعوبة، ولا أعتقد أننا نستطيع اليوم أن نصل إلى إجابات متكاملة، تنقذنا من الحيرة، وترسم لنا مسارات الخروج من متاهة الأسئلة التي تؤرقنا.
ما سأقوله اليوم هو مجرد محاولة لطرح أسئلة على الأسئلة في سياق بحث الكلمات عن معانيها، لأن أحد معالم الكارثة الثقافية – السياسية التي نواجه اليوم، تكمن في الطلاق بين الكلمات والمعاني، وفي ابتذال الكلام، من أجل محو الفوارق بين الجلاد والضحية.

النكبة: الذاكرة والحاضر

يتلخص المشروع الثقافي الصهيوني في مواجهة ضحيته الفلسطينية، في محاولة محو الفوارق بين الجلاد والضحية، تمهيدا لتحول الجلاد إلى ضحية، والضحية إلى جلاد.
لا يخفي الأدب الإسرائيلي هذا المقترب، فاليسار الصهيوني الذي شكل العمود الفقري للأدب الإسرائيلي، قام بإخراس ضحيته الفلسطينية جاعلا منها، هذا إذا اعترف بوجودها أصلا، ملحقا بالضحية اليهودية. فانتقلت الضحية الفلسطينية من شبح لامرئي إلى كائن أخرس، لا تتكلم، حين يؤْذَن لها بالكلام، إلاّ هذيانا.
كانت هذه اللعبة الثقافية الإسرائيلية بالغة التعقيد، لأنها حملت موقفين متناقضين: محو ذاكرة، وتأكيد ذاكرة أُخرى. صحيح أن المقارنة بين الذاكرتين لا تصحّ، غير أن هاتين الذاكرتين تقفان في حلبة صراع لامتكافئ، بحيث تمتلك إحداهما جميع أدوات السيطرة، من سلطة سياسية وعسكرية، إلى تحكّم في النص التاريخي، إلى تعاطف دولي غربي شامل، بينما لا تمتلك الأُخرى سوى كلامها الشفهي، ومحاولة بناء حكايتها من ركام الأمكنة والكلمات.
قلت إن المقارنة لا تصح بين الذاكرتين، ليس لأن هول المحرقة النازية بالغ البشاعة فحسب، ولا لأن أرقام الضحايا وطرائق إبادتهم بلغت ذروة لا سابق لها على يد النازيين، وهذا صحيح، بل لأن المحرقة حدث تاريخي جرى في الماضي، بينما النكبة فعل يجري في الحاضر. المسألة تكمن هنا، وليس في أعداد الضحايا فقط. فالموقف الصهيوني القاضي بتجريم ذكرى النكبة خلف الخط الأخضر، هو محاولة لتحويل الحاضر ماضيا، أي ذاكرة عليها ألاّ تتذكر، وهنا يصل تغييب الفلسطينيين إلى ذروته. فالنكبة تنتمي إلى الذاكرة، وذاكرتها لا يمكن مقارنتها بذاكرة المحرقة، وبناء عليه، فإن إحياءها لا مبرر له، لأنه يقلل من مهابة المأساة اليهودية.
هكذا يبتلع التزوير الواقع المعيش، ويتحول جميع الغائبين-الحاضرين إلى أشباح آتية من ذاكرة للنسيان.
النكبة ليست ذاكرة، صحيح أن حرب النكبة كانت نقطة تحوّل كبرى في الواقع والوعي الفلسطينيين، لكن الحرب لم تضع نقطة ختامية للمأساة، وإنما كانت محطة كبرى كي يستمر فعلها بشكل مباشر خلف الخط الأخضر، لتنتقل بعد هزيمة العرب الكبرى في سنة 1967، إلى جميع أنحاء فلسطين التاريخية، فنشهد في كل يوم ممارسة نكبوية متنامية، بحيث صارت فلسطين كلها أرضا للنكبة والمنفى.
واللافت أن الثقافة العربية سقطت في فخ اعتبار النكبة حدثا اكتملت عناصره في سنة 1948، وكان لهذا الفكر تأثيرات كبرى على مسارات الوعي، لأنه أجّل الوعي الفلسطيني بحقيقة واقعه المهدد بالامّحاء من جهة، وساهم في دفع الوعي العربي إلى اجتراح ردود سريعة على النكبة، أنعشت الفكر الانقلابي الذي كانت بذوره كامنة في الوعي القومي العربي، من جهة ثانية.
لذلك لم تكن نهضة الأدب الفلسطيني الحديث بعد الهزيمة الحزيرانية مجرد مصادفة. فهذا الأدب نما في ظل بدايات وعي فلسطيني بأن محو الذات الفلسطينية لم يكن مشروعا إسرائيليا فقط، بل كان أيضا جزءا من تواطؤ الأنظمة العربية مع المحتل، و / أو محاولة لتفادي المشكلة عبر تأجيلها، وتهميش ضحاياها.
والواقع أن التزامن حدث بين البداية الأدبية الفلسطينية الجديدة وبدايات التمرد الأدبي العربي على الأشكال والأيديولوجيا القومية المسيطرة. فبين رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» والحساسية الجديدة التي عبّرت عن نفسها في مجلة «جاليري 68»، ورواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة»، أكثر من علاقة المصادفة الزمنية، فهناك بداية بحث جديد ستنفجر في الشعر والرواية، مشكِّلة مرحلة أدبية جديدة في فلسطين والمشرق العربي.
مقاومة النكبة المستمرة بدأت عبر استعادة الاسم الفلسطيني، من راشد حسين إلى محمود درويش، ومن غسان كنفاني إلى سميرة عزام وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، وهي استعادة ملأى بالأسئلة ومحاولة إعادة إنتاج الذات الفلسطينية كفاعل تاريخي سيجد في منظمة التحرير وعاءه النضالي والسياسي.

المرجع الأخلاقي والمعادلات السياسية

في كتاب «أسرى بلا حراب»، يقدم مصطفى كبها ووديع عواودة، شهادة نادرة عن الأسرى الفلسطينيين بعد حرب النكبة. فهذا كتاب مليء بالحكايات المأسوية، والكلام الذي لم يُقل ولا يقال. مسألتان استوقفتاني في هذا الكتاب:
الأولى هي الأقفاص، إذ تُجمع شهادات الأسرى على أن الاعتقال في عتليت وصرفند وتل لتفنسكي والرملة وإجليل وأُم خالد اتخذ شكل الأقفاص، وأن الأسرى وضعوا في أرض مسيجة بالأسلاك الشائكة، أطلق عليها الصهيونيون اسم الأقفاص. واللافت أن مصير الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم بعد حرب النكبة انقسم إلى ثلاثة أشكال: إعدامات ميدانية، وأقفاص للأسرى، وغيتوات للآخرين. غيتوات اللد وحيفا ويافا والرملة كانت أقفاصا كبيرة، لكن مصير أولاد الغيتو في المدن لم يكن يختلف عن مصير أبناء القرى الذين فُرض عليهم الحكم العسكري، ومُنعوا من مغادرة قراهم إلاّ بإذن من الحاكم العسكري. غيتو يشبه القفص، وقفص ليس سوى تصغير للغيتو، وفي الحالين فُرضت السخرة على الناس، وأُجبروا على نهب بيوتهم أو بيوت أقرانهم، وعاشوا على حافة الغياب.
هل هناك كبير فرق بين أيام الأقفاص والغيتو تلك، وبين تحويل غزة إلى معتقل محاصر اليوم، أو تقطيع أوصال القدس وتغويت أحيائها، أو تحويل الضفة الغربية بأسرها إلى معازل؟
لا أريد الدخول في مناقشة سياسية لأثر أوسلو ونتائج هزيمة الانتفاضة الثانية، لكن من الواضح أن الفلسطينيين في المناطق المحتلة يعيشون اليوم تجربة شبيهة بتلك التي عاشها فلسطينيو 1948 بعد حرب النكبة: مصادرة للأراضي، وانفلات استيطاني كولونيالي، وتحويل الناس إمّا إلى أسرى، وإمّا إلى موتى، وإمّا إلى سكان للغيتوات الجديدة، في ظل سلطة فلسطينية لا سلطة لها.
نحن في النكبة ولم نخرج منها. والحقيقة أن الفعل النكبوي لا يجري في فلسطين فقط، بل يشمل أيضا فلسطينيي الشتات المجاور، من تل الزعتر إلى شاتيلا وصبرا، وصولا إلى اليرموك وبقية المخيمات في سوريا. لكن الأمر الخطر والذي يستحق تأملا وتفكيرا هو أن النكبة امتدت إلى شعوب هذه البلاد أيضا، وأن ما نشهده اليوم في سوريا هو الأكثر تعبيرا عن واقع أن هذه النكبة المستمرة لا تطال الفلسطينيين فحسب، وأن الجلاد ليس الصهيونيين وحدهم، على الرغم من مسؤوليتهم التأسيسية، بل إن السلطات الاستبدادية العربية كانت منذ البداية شريكا، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الكارثة.
أمّا المسألة الثانية المثيرة في هذا الكتاب فهي ما يمكن أن نطلق عليه اسم المسألة الأخلاقية. فعلى الرغم من المجهود الهائل الذي بذلته الثقافة الإسرائيلية المسيطرة لنفي أحداث النكبة، والترويج لما يطلقون عليه اسم طهارة السلاح الإسرائيلي، فإن تسرّب كذب هذه اللغة بدأ منذ اللحظة الأولى، وقبل أعوام من أعمال المؤرخين الفلسطينيين، ثم المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وهي اللحظة التي سأطلق عليها اسم لحظة «خربة خزعة»، بالإشارة إلى رواية س. يزهار، التي تحمل هذا العنوان، والتي كانت الصوت الأول الذي كسر الصمت. لكن الصمت لم ينكسر فعلا؛ «خربة خزعة» بقيت عملا يتيما أُخضع لتأويلات صهيونية شتى، والحكاية الفلسطينية لم تجد طريقها إلى الأدب إلاّ مع أعمال جيل النكبة من الفلسطينيين.
في كتاب «أسرى بلا حراب» نعثر على شهادة موسى عبده إبراهيم، الأسير من الناصرة التي تقول كل ما لم يُقل دفعة واحدة، وتفتح الباب أمام اللغة العارية التي ينقلها الأسرى عن جلاديهم. يقول الأسير في شهادته: «إجمالا المعاملة كانت قاسية، ولمّا كنا نشكو التجويع كانوا يقولوا: الألمان لمّا اعتقلونا ما كانوا يعطونا أكل».
الإشارة إلى تقليد الممارسة الألمانية هنا، تأخذنا إلى تشبيه يزهار لفلسطينيي القرية التي دُمرت وهُجّر سكانها، باليهود في زمن النفي التوراتي.
غير أن المبنى الثقافي الإسرائيلي قام بحجب شبه كامل للتطهير العرقي والممارسات العنصرية خلال حرب النكبة ، فحضور الفلسطيني في الرواية كما في السياسة يطرح علامة استفهام كبرى بشأن شرعية الدولة العبرية، ولذا تغطت الثقافة الإسرائيلية بالاستعارات كي تحجب المعنى، واستعادت أسطورة التضحية بالابن والصراع بين الأخوين، كي تمحو الجريمة.
وما نشهده اليوم من لغة سياسية عارية، ومن صراع معلن داخل الثقافة بين عري الحقيقة العنصرية والاستعارة الإنسانوية التي يمثلها اليسار الثقافي الصهيوني، هو جزء من تحوّل شامل على المستويات السياسية والفكرية، فالخطاب اليساروي ـ الكولونيالي استُنفد، وإسرائيل جزء من عالم تسيطر عليه القيم النيوليبرالية، والمشرق العربي يتدحرج في العتمة والاستبداد، ولذا لم يعد هناك ضرورة للغة مغطاة بإنسانوية كاذبة، ولم يعد هناك ما يبرر الاحتلال سوى المرجعية الدينية.
واللغة الدينية، على الرغم من أغطيتها الأسطورية كلها، هي لغة عارية، وخصوصا عندما لا يبقى من الدين سوى مشروعه السلطوي. لغة تُعرّي اللغة، وتعيدنا إلى الكلام المباشر الذي يصير الطرد والحرق والاغتصاب فيه، قاموس القوميين المتدينين التي تعيدنا إلى ما قبل اللغة.
وهذه اللغة ليست جديدة، بل نجدها في أكثر من مكان، لكنها كانت محجوبة في الهامش الذي يعبّر عن الحقيقة.
في حمّى هذا الصراع على اللغة، نكتشف مسألتين:
الأولى، أن عجز الثقافة الإسرائيلية عن الاعتراف بالآخر، واجهه انفتاح فلسطيني مذهل على الآخر: من قصيدة محمود درويش «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، وشخصية ريتا في أشعاره، إلى رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني.
الثانية، أن هذا الانفتاح الأخلاقي تزامن مع تأسيس لغة الهوية الفلسطينية المتعددة. لغة تروي شذرات من النكبة، وتأخذنا إلى رؤية نضالية مستقبلية، وتقرأ التجربة الإنسانية من خلال الحكاية الفلسطينية.
الصراع في الثقافة كان في جوهره صراعا أخلاقيا، أي صراعا على المعنى الوجودي والأخلاقي، وليس فقط صراعا على الأرض. ومن الشيّق أن نتوقف قليلا عند أطروحة المؤرخ الإسرائيلي أمنون راز-كراكوتسكين، التي تفترض أن الثقافة اليهودية في إسرائيل تخلّت عن إنجازها الأخلاقي في كونها ثقافة منفى، وأن علينا اليوم كي نقرأ المنفى أن نعود إلى إدوارد سعيد ومحمود درويش.

ثقافة البقاء

إن أي بحث عن هوية فلسطينية مؤسطرة لا يجدي، فلا التمسك بالتعبير الكنعاني، ولا أي حفر في ماضي الفلسطينيين القدماء، ولا حتى إعلاء شأن الانتماء القومي العربي، سيقود إلى هوية تشكل ندا للأسطورة اليهودية في إطارها الصهيوني. فالأسطورة اليهودية، ككل الأساطير، لا مكان لها سوى في مشروع فاشي إلغائي، أكان معلنا أم مضمرا. أمّا الهوية الفلسطينية فلم تكن سوى دفاع عن الوجود والبقاء، ولذا اكتفت هذه الهوية بمجموعة من الشعارات والشعائر الوطنية، من الكوفية إلى فكرة الفدائي إلى رموز الأرض، كي تعلن أن مشروعها الحقيقي هو البقاء على هذه الأرض، والدفاع عن هذا البقاء، ووضع جميع المكونات الثقافية من دين شعبي إلى فولكلور إلى حكايات شعبية إلى أدب رفيع، في خدمة هذا المشروع الذي حين تبلور على المستوى السياسي، تشكّل كجبهة وطنية مفتوحة، وكإطار جامع.
وكان دور الثقافة الفلسطينية على هذا المستوى تأسيسيا، فلغة العلاقة بالأرض هي إنجاز شعري أولا، والرموز الوطنية هي حصاد ثقافي قبل أن تتحول إلى لغة سياسية، وصورة اللاجىء والفدائي العائد تتعايش مع صورتَي «المتشائل» والمثقف الطليعي في الرواية.
إنجاز الهوية المفتوحة، إذا صحت التسمية، كانت البداية التي تسمح لنا اليوم بأن نعيد النظر في ثقافتنا، كي تكون ملائمة لـ، ومعبرة في وعن واقعنا اليوم.
والتحدي الذي تواجهه الهوية الفلسطينية في مرحلة صعود اليمين القومي-الديني في إسرائيل، لا يختلف كثيرا عن تحدي المعنى الذي تواجهه الثقافة في المشرق العربي أمام كارثتَي الاستبداد والأصولية، اللتين فتحتا الباب لانهيار القيم وتدمير المدن والقرى وتحويل الناس إلى جموع من اللاجئين والمشردين.
تحديان يتشابهان في الدلالة ويختلفان في الإطار، لكن لا يمكن مواجهتهما في مكان بمعزل عن المكان الآخر.
في هذه المواجهة المعقدة علينا اكتشاف الأشياء من جديد، فالحياة مثل الكلمات، تتغير معانيها حتى إن كانت مواسمها لا تتغير، لكن نقطة منطلق الثقافة ومآلها هي الدفاع عن الحياة، أي الدفاع عن البقاء عبر إعطائه معاني متجددة.
والبقاء في الأرضن وفي جميع أمكنة الشتات، هو التحدي الدائم، وخصوصا أن الشتات الفلسطيني كالشتات العربي يمتد اليوم ليشمل قارات جديدة ولغات وثقافات مختلفة.
البقاء اليوم يعني كتابة الحاضر، ليس بهدف تأكيد الهوية فقط، بل أيضا بهدف أن يكون النتاج الثقافي ابن الحاضر، شاهدا ومقاوما. يكتب الصمود والألم والمعاناة، ويصير وعاء لمقاومة طويلة تتشكل في إطارين:

الإطار الأول قيمي أخلاقي، فالصراع ليس على الأرض بصفتها رمزا دينيا وطوطما أسطوريا، وإنما هو على أرض يعيش فيها البشر. ومن هنا يصبح المرجع القيمي الأخلاقي أساس المقاومة الأول.

تكشف الصهيونية اليوم عن عنصريتها وعدائها للقيم الإنسانية، فمقاومتنا لها ليست دفاعا مشروعا عن النفس فقط، بل دفاع عن القيم الأخلاقية أيضا، قيم الحرية والمساواة. لم يقاوم الفلسطينيون الهجرة اليهودية لأنهم كانوا لاساميين، وإنما بصفتها مشروعا كولونياليا. وإذا كنا قادرين اليوم على الاعتراف بأن لغة تلك المقاومة كانت مشوشة بمخلفات أيديولوجية قومية ودينية، فإنه لا يحق لنا اليوم أن نسقط أمام غواية اللغة الجاهزة. وإذا كانت البنى السياسية عاجزة اليوم، وخصوصا بعد نهاية وهم أوسلو، عن مقاومة اللغة الجاهزة، بل إن جزءا كبيرا منها يتبنّاها، فإن الثقافة والفكر والفن والأدب، تستطيع أن تؤدي دور حارس القيم، كي تجعل من نفسها، في لحظة هذا النكوص التاريخي، منصة لبناء وعي جديد.
فكرة فلسطين ـ والتعبير لإدوارد سعيد ـ هي فكرة أخلاقية أولا، وأفقها كوني وإنساني، والمقاومة التي تخوضها على جميع المستويات، هي أفق للحرية والتحرر.
في مقاومة الأبارتهايد الإسرائيلي الزاحف، والذي يتقاطع مع انهيار سياسي في المنطقة، تكون المقاومة صراعا بين أخلاقين، ولا خيار أمام الضحية سوى التفوق الأخلاقي، وإلاّ فإنها ستُهزم في الصراع على الحياة والبقاء.
الإطار الثاني بنيوي يتعلق بالمقترب الثقافي، فالثقافة اليوم، كما تشير إلى ذلك بذور الجديد التي تنمو في حقولها، هي ثقافة الحاضر. نقرأ الماضي بعيون الحاضر، ونعيد اكتشاف الحاضر عبر مقاومة الاحتلال والاستبداد.
النكبة ليست ماضيا كي تعيش في الذاكرة فقط، النكبة حاضر يجب مقاومته بلغة الحاضر وليس بالوقوف على أطلال ماضٍ يرفض أن يمضي.
القيم الجديدة في حاجة إلى أشكال جديدة، والحاضر لا يخوض صراعه مع المحتل على الذاكرة، وإنما على الحق في الرواية. مَن يروي الحكاية الفلسطينية، ورواية مَن ستنتصر في النهاية؟ لا يفترض هذا السؤال تمييزا بين مشروعين قوميين، لأن الصراع، كما يتشكل في حاضرنا اليوم، هو على الانحياز إلى قيم الحقيقة والعدالة.
الصراع على مَن يروي هو اسم آخر للصراع على مَن سيرث هذا الألم الفلسطيني العظيم.



صدى الشام