الضوء في السينما


فيصل الزعبي

السينما صورة، والسينمائية: ما هو داخل الصورة.

الصورة رسم بالضوء photograph، (فوتو وهو اختصار “فوتون”: وحدة الضوء، و”غرافيك”: رسم). فنحن نرسم ما نريد على شريط حساس بشعاع الضوء “لا سينما ولا صورة خارج الضوء، علمًا وفنًا”.

إن الشريط السينمائي الحساس، لا تنطبع عليه الصورة -أي صورة- إن لم تحمل هذه الصورة الضوء الملائم، والمدروس -علميًا وتقنيًا- مع حساسية هذا الشريط، والفتحة الملائمة للكاميرا، لإدخال هذا الضوء مرافقًا للصورة تقنيًا؛ ثم تعبيريًا. وهي تقنيات أولية للمصور والمخرج السينمائي من الناحية المعرفية التكنيكية.

ثم إن الضوء يعطي الرؤيا الفنية في التعبير التكويني للصورة، ضمن وظيفتيتن متحدتين: الدرامية من جهة، والوظيفة الجمالية، من جهة أخرى، وهما اللتان يتم التوقف عندهما، وإدخالهما ضمن نطاق الابداع السينمائي، أو سينمائية الصورة، أو الفيلم برمته.

إن عين الكاميرا التي تلتقط الأشياء المنبعثة أمامها، هي عين عشوائية، تطبع على الشريط ما تيسّر لها، أما عين صانع الفيلم فعين تحدد ما تريد رؤيته، وبالتالي؛ عرضه على الشاشة لاحقًا، باعثة في الأشياء الأحاسيس، ودرجات من مكونات المشهد ذاته.

هناك ثلاث وظائف للضوء في السينما:

بدون امتزاج وتناغم هذه الوظائف الثلاث، لا تستوي الصورة السينمائية فنيًا. أما مكانيًا، فالضوء ليس ذلك الضوء -زمانيًا- وليس ذلك الضوء -حسيًا- (دراميا)، فهو مكانيًا: الذي يلغي ويخفي ويوضح ويوهم، ويحقق القيمة المكانية لمحتوى الصورة، ويعطي للمكان قيمة سيكولوجية، ويبث فيه أحاسيس مقترحة، وأحاسيس مؤكدة، فيحدث الاشتباك الحسي. لذلك؛ من المستحيل أن يكون الضوء السينمائي إنارة فيزيائيةً للمكان وحسب؛ بل يجب أن يعطيه المعنى الفني.

ضوء غرفة السجن -مثلًا- لا يُعقل أن يكون هو نفسه ضوء الغرفة العادية، والضوء الليلي يختلف عن النهاري، وكذلك ضوء المكان المغلق الواقع في الظل، يختلف عن المكان المفتوح وهكذا.

الضوء -إذن- يحمل وظائف إبداعية متعددة يصعب حصرها.

إن توزيعه بتضاد (كونتراست) وبناءً على علاقته مع الظلال والألوان، يعطي مفهومًا جماليًا تشكيليًا، كما في (اللوحة التشكيلية) وبناء على شروطها؛ مع تعقيد في حركة المشهد الدائمة في السينما، لذلك؛ نرى أن الضوء في السينما له قيمة متحركة أيضًا.

في السينما يتم دراسة الضوء -فنيًا- بملاءمته مع الألوان الممتزجه معه، من خلال المشهد المقترح، ومع الألوان الساقط عليها كضوء كاشف ومحدد لها، وعلاقة الألوان بانعكاسها للضوء نفسه. ولا بد من رؤية فنية جمالية مقترحه من صانع الفيلم، وتعبير تقني لتناغم اللون مع الضوء كقيمة فنية ووظيفة درامية.

إن الضوء المنبعث من النافذة فجرًا، هو ليس ذلك الضوء المنبعث بعد مغيب الشمس، مع أن كم الضوء ذاته، لكنه يختلف باللون وبطريقة انتشاره. ولأن السينما تعتمد على صناعة أماكن التصوير في الاستديوهات؛ فلا بد من التعرف إلى العلمية الفيزيائية لانتشار الضوء؛ بحسب الزمن ومصدره وحسه.

إن تحقيق الانتشار الضوئي في الزمانين المختلفين للمكان نفسه، تعلّمنا إياه الطبيعة وإحساسنا بها، فالفجر في الطبيعة يتكون –ضوئيًا- بالتدرج الضوئي من الأدنى إلى الأعلى، فإذا راقبنا الفجر في الطبيعة، سنرى قوة الضوء على الأرض أكثر وأقوى منها في الأفق، “راقب الفجر وسترى النهار فقط على الأرض، ويمكن مشاهدة النجوم في السماء”. أما بعد المغيب “الشفق” فإنه الأمر ينعكس تمامًا، تصبح الأرض في ظلام دامس والأفق ما زال مضيئًا.

هذا الانتشار للإضاءة والضوء، له مفاهيمه في السينما، وبخاصة عندما يكون التصوير في الاستديوهات، وحتى لو كان التصوير في الطبيعة. لذلك -ومنذ زمن بعيد- أنشئت تقنيات إضاءة في الطبيعة، لنؤكد هذه التعبيرات الزمانية؛ فإذا تعذر تصوير الفجر في الطبيعة، عند ساعة الفجر، نصوره تحت مؤثرات ضوئية وألوان خاصة تمكننا من التعبير عن الفجر زمانيًا، وكذلك إذا كان مصدر الضوء من نافذة؛ لأن وجود النافذة في مشهد الفجر المصطنع لا يحقق إضاءتها كما تبتغيها الصورة السينمائية فنيًا، فنصنع الضوء الملائم لتكوين حقيقة فنية ما.

كما أن للضوء قيمة درامية هائلة، في التعبير من خلاله، ففي القطع الإضائي نعبر عن مفاهيم وروح المشهد أو الشخصيات. كالشخصية المضطربة التي تعيش وحيدة في مكان ما. فغرفة السجن، لها حلول إضائية خاصة، تعبر عن سيكولوجية السجين، ومثلها غرفة الإعدام، ومختلف الحالات الإنسانية، كالخوف والحنين والفرح والضجر والانتظار… وهكذا يصبح الضوء مؤثرًا دراميًا، يعطي للمتلقي مشاعر خاصة، من خلال تعبيره الفني، ومن خلاله رسم روح المشهد ومعناه. كما نعبر بالضوء عن إيقاع المشهد، وسكونه وتردده وحماسته، حيث يمكن من خلاله قول ما لا يقوله الحوار والكلام.

إن فهم الضوء في السينما ليس محصورًا بالمصور؛ كي يتقن صورته وحسب؛ إنما هو فعل رؤيوي للمخرج ولكاتب السيناريو -أصلًا- فلا سينما ولا صورة ولا فيلم، دون وعي وإتقان وضائف الضوء الفنية المتعددة.




المصدر