أصوات الطفولة
9 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2017
سعيد قاسم
[ad_1]
قبل أشهر جاءني اتصال هاتفي من رقم مجهول، كان ثمة طفل ينادي “بابا.. بابا”، لم أكترث لذلك الاتصال حينئذ، ولكن صوت الطفل لايزال حيًّا في أذنيّ، كان صوته شجيًّا يحمل نَفَسًا مليئًا بالشوق، تهرّبت كثيرًا من معرفة حقيقة الاتصال، أو الخوض في الموضوع؛ حتى بيني وبين نفسي.
أسابيع مرت ولا زلت أحمل ذلك الصوت، وكأنني عشّه، أو أنني عاشق مراهق يفكر بالكلمات الأولى لحبيبته! ليس أصعب من التفكير في معاناة الأطفال! هل فقد الطفل والده في الحرب، أم نالت مسافة الهجرة منهما؟
استعادة الصوت تفتح أبواب الاحتمالات دائمًا، وتعيدني إلى ذكرى وفاة جدتي الأولى، والدموع الأولى التي ذرفتها وأنا طفل؛ ثم تحيلني إلى ذكرى وفاة جدتي الثانية، والدموع التي كنت بحاجة إلى أن أذرفها وأنا رجل.
أفتقد جدتي كثيرًا، وقد مرّ أكثر من عامين على رحيلها، الحياة من دون جدة تشبه حياة المشرّد الذي لا يجد أحدًا يشعره بالأمان في العالم الخارجيّ. الجدة كانت رابطًا قويًا بيني وبين أشخاص كثيرين، أعتقد اليوم بأنّي غريب عنهم بعض الشيء. الآن أشعر بأنّي عالم آخر يعيش بموازاة عالم يجري؛ نهر صغير يسير بموازاة نهر جارف، دون أن يلتقي به ومن دون أن يتعرف على نهاية ذاك النهر، أو يفهم كيف عبر كل تلك الوديان والمرتفعات، أو كيف يستطيع تجاوز ما سيأتي.
في الفيلم الأميركي “الآباء والأبناء” لا يقف الموت حاجزًا في ترتيب العلاقة بين الأب والابنة، بل تستطيع الابنة التصالح مع والدها؛ حتى بعد عقد ونصف من وفاته.
الأب الذي فقد زوجته في حادث سير، عندما لم تبلغ ابنته الثامنة، اصطدم بعوائق كثيرة في رحلة العناية بالفتاة الصغيرة. الدعوات القضائية المتكررة، من خالة الطفلة وزوجها المحامي، لتبنيها، المرض العصبي الذي عانى منه بعد الحادث؛ علاوة على الأعباء المادية.
لم تستغرق هذه الرحلة أكثر من سنتين؛ إذ فقد فيه الأب حياته، لكنّه، وهو الكاتب الروائي المغمور، استطاع في الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل وفاته، أن يؤلّف رواية حازت -في ما بعد- على أهم الجوائز الأدبية. انشغاله طوال الأشهر الثلاثة أثار استياء ابنته؛ بسبب كتابة الرواية، ومن ثم بيعها، بهدف تأمين المال اللازم للدفاع عن حقه في الاحتفاظ بابنته.
بعد وفاة الأب تتبنى الخالة الطفلة، وتكون قد طلّقت زوجها قبل أيام من ذلك. تقضي مع الطفلة وأحقاد الماضي سنوات طويلة، لتصير الابنة في ما بعد طبيبة نفسية، وعملها طبيبة نفسية للأطفال يحتّم عليها التعامل مع ماضي الأطفال، والسعي لمحو آثاره، لكنّ ذلك يجعلها في موقع المواجهة مع ماضيها هي، لتتداخل حياتها الحاضرة مع حياتها في الماضي، وعلى هذا النحو تسير الأحداث لتكشف جوانب عقدة الأب في حياة الفتاة، فلا تستطيع الفتاة مقابلة والديّ حبيبها، ولا تستطيع أو ترغب في تأسيس عائلة. عدم وجود هذه الرغبة يجعلها لا تبالي بأهمية المحافظة على ذلك الحب؛ حيث تفقده، فيصيبها ذلك الفقد بالصدمة، إلا أن الصدمة تجعلها تعود للتصالح مع الماضي، ومن ثم التصالح مع المستقبل.
التصالح مع الماضي هو التصالح مع من نفتقدهم، وهو تجاوز ظلم وقع علينا على نحو معين، والإيمان بقدرتنا على التصالح مع ذكرى عزيز افتقدناه، وهو الانتهاء في النهر الكبير الجارف الذي يجري بموازاتنا.
لكن كيف يمكن تصوّر هذا التصالح حين تفكر بجيل الأطفال الذي عايش الثورة السورية، أولئك الذين يفهمون جيدًا الأبعاد الوحشية لكلمات مثل “الموت، البراميل المتفجّرة، القذيفة…” بينما تحمل أجمل كلمات الطفولة “بابا، ماما” أبعادًا مؤلمة لكثير من الأطفال الذين عايشوا فقدان آبائهم أو أمهاتهم أمام أعينهم.
يصعب تخيّل ذلك، ولكن يصدف أن تقرأ عن قدرة الطفل السوري على تجاوز ألمه، حيث رسمت طفلة سورية لاجئة إلى لبنان، في إحدى المعارض الخاصة بالأطفال السوريين قبر والديها، وهي تقف إلى جانبه ممسكة بيد أمّها، وقد كتبت على رسمتها “الحمد لله لأنّ أمي معي”.
لا يستطيع أحدنا تجاوز آلامه إلا حين يفهم جوهر الألم، ولا يكون ذاك إلا بفهم جرحه الطفولي الأول. أما الأطفال السوريون؛ فإنهم كبروا بآلامهم؛ لكنهم تركوا أصواتهم في أعماقنا كعلامة تذكّرنا –دائمًا- بما اقترفناه.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]