تجربة “الإسلامويين” في حلب


هشام أسكيف

بعد تفجّر الثورة الشعبية في سورية، التي حملت مضامينًا وطنية أرعبت النظام، وجعلته مُرتبكًا وتائهًا، تتهدده رياحها، إلى أن تدخّل “عرّاب” الملف الأمني علي مملوك، الذي كثيرًا ما صرّح باختراقه صفوف المتشددين، بل وأن له أصابعًا تلعب فيهم، عارضًا خدماته على الأميركي.

كان “عرّاب” الملف الأمني لعب على الرقعة بأحجار رابحة، بعد أن كاد النظام أن يسقط، فمن حوران إلى عامودا، كانت تُطلق شعارات وطنية ثورية تريد التغيير المنشود، والتخلص من المنظومة الأمنية الاستبدادية، وعائلة الأسد، فما كان من الجهاز الأمني إلا أن أطلق سجناء صيدنايا، وأطلق كثيرًا من معتقلي التطرف الراديكاليين، والمفارقة -هنا- أنه في الوقت نفسه، كان يملأ السجون ويقتل تحت التعذيب أصحاب التنوير والثوار الذين حملوا فكر الدولة العصرية البديلة عن دولة نظام الأسد، فكان يقتل الثورة من طرف ليحيي ثورة “إسلاموية” غير وطنية من طرف آخر، وغذّاها بالعنف الطائفي، وأخذ يُسرب مقاطع فيديو للمعتقلين، أشعل بها نارًا كانت دفينة تحت رماد الزمن المفعم بالتناقضات التي حافظت على حكم آل الأسد.

لم يستطع النظام القضاء على الثورة بمعانيها الوطنية وشموليتها، وقدرتها على استيعاب الوطن السوري، فقام باختراقها بالتوتير والتجييش الطائفي والعرقي تارة، وبإغراقها وتحميلها أكثر مما تحتمل، بما أطلقه من أصحاب الفكر الأسود والعُقد النفسية والمخططات، التي أكلت جدران السجن من تلافيف عقلهم، ما يكفي لتدمير جيلين من الثورة وليس جيلًا واحدًا.

حلب أنموذج يختصر المشهد، الذي كتب النظام له السيناريو، وأخرجته ثلة من التائهين فكريًا تحت شعارات إسلامية برّاقة، وتطبيق عبثي، بل غوغائي استنسابي للشريعة.

بعد عام 2013، تقفز إلى المشهد صورتان، إعلان تنظيم الدولة الخلافة الإسلامية، وإعلان تنظيم (جبهة النصرة) وتبعيتها للقاعدة.

إن هذين المشهدين، إذا تم إرفاقهما بالمظلومية التي طالت الشعب السوري كله، والعنف العاري الطائفي المُمنهج من قبل النظام، أوصلا النظام إلى مبتغاه، فقسّم الثورة إلى ثورات، وعرّاها من منطوقها الوطني الحداثي، وأعطاها بُعدًا فئويًا، حصرها فيه، بالمقابل نجد أن الموالاة ليست مبنية على أسس فكرية، وهذه حقيقة، ولكن، في الوقت نفسه، ليست مبنية على حصرها في عرقية أو طائفة، وحرص النظام دائمًا على التنغيم على كل الأوتار التي تُظهره تارة حامي للأقليات، وتارة أنه معقل للعلمانية، وتارة ملجأ السنة من التطرف والتكفير، وحصر الثورة بثورة إسلامية سنيّة (على أننا لا نغفل ما فعله النظام بالسنّة على مدى العقود الماضية).

تصدّر المشهد العام شخصيات بمسميات غريبة “شرعي الفصيل” الفلاني، “المكتب الشرعي” في “الأراضي المحررة”، قضاة يحكمون بالشرع، ولكن عمليًا يُشرّعون لأعمال استبدادية من اعتقال إلى قتل تحت التعذيب، فكانت التجربة “الإسلاموية” في حلب فشلًا على فشل، فلا طبّقت شرعًا ولا حكّمت شريعة، بل صدّرت مشهدًا متناقضًا مع نفسه، يُحرِّم علم الثورة، ويعطي ألقابًا تدلّ على تشبّع رغبوي للعيش في كتب التاريخ، وليس صناعة التاريخ، من “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، إلى “الهيئة الشرعية”، إلى “الحسبة”، إلى لقب أمير كذا وأمير كذا، إلى أوصاف وألقاب ومظاهر كانت تُعطي الذرائع دائمًا لنظام تشبّع بالقتل وعاش عليه، وتبَرَرَ بقائه عبر هؤلاء، فهو يريد أن يقول للجميع داخلًا وخارجًا إن البديل لي هم هؤلاء الحمقى، وأصحاب الفكر العبثي المتخبط، فأين دولة الحريات وأين الصحافة في الأرض المحررة، إذا كان بعض شرعيي ومشايخ سلطة البندقية، والذين لم يأخذوا شرعية شعبية ثورية كما أغلب فصائل وقطاعات الجيش الحر، بل أخذوا شرعيتهم من بنادقهم، يعتقلون هذا؛ لأنه “علماني” ويُغلقون ذلك المنتدى الفكري؛ لأنه يضع أغاني ثورية، تتغنى بالثورة وشهدائها وتضحياتها، فكانوا كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث وصل بهم الأمر إلى تكفير الجيش الحر وتخوينه، الجسم الذي حمل عبئًا ثقيلًا على كاهله، وقاتل النظام، وحرّر الأرض، ودفع الدم لأهداف وطنية ثورية نقيّة، رغم افتقاره للخبرة والسلاح النوعي، وكان مؤمنًا بقضيته، ليجد نفسه أمام هجوم ومزاودة، فزاود بدوره، وهنا يكمن خطؤه.

بعد كل هذا، هل نُعيد التجربة نفسها بعد أن أثبتت، ليس فشلها فحسب، بل إعاقتها الفكرية وقصورها، وتلبيتها للصورة التي أراد النظام إلصاقها بالثورة من أول يوم.




المصدر