حوار ديمقراطي مع داعية إسلامي


سمير سعيفان

وصلتني مقالة من الدكتور موفق بن مصطفى السباعي بعنوان: “معنى التوحيد.. الذي يجعل من يطبقه.. مسلمًا “. وعادة ما يرسل الدكتور مقالاته إلى كثيرين؛ ما يجيز المناقشة العلنية لما ورد في رسالته. والدافع لمناقشتها المفتوحة هو -من جهة أولى- وقوف سورية على أبواب مرحلة جديدة يتطلب فيها تحديد طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي الذي يمكن أن يسود في سورية الجديدة، على الرغم من تعثر ولادة هذا الجديد، ووقوع مسألة المرجعية والحاكمية وآليات إنتاج الحكم والحاكم في قلب طبيعة أي نظام سياسي اقتصادي اجتماعي سابق أو لاحق، ومن جهة ثانية توسع انتشار الأفكار التي روج لها الدكتور السباعي في رسالته خلال فترة الصراع المستمر في سورية منذ 2011، وجرت تغذيتها بقوة.  وسأناقش ما طرحه الدكتور السباعي من وجهة نظر عملية تطبيقية تنفيذية، وليس دينية، فهذا ليس مجالي.

وفي المناسبة، الدكتور السباعي طبيب أسنان، يقيم ويعمل في دبي، وهو بارع ومخلص في عمله، وأقول هذا عن تجربة شخصية، واعتقد أن صدره سيتسع لحوار صريح، وأرحب بأي ردّ منه على ما سأورده من أفكار.

يقول الدكتور السباعي في رسالته: “الحكم لله وحدة [وحده] لا يشاركه فيه أحد” و”أن نطق شهادة ( لا إله إلا الله) تعني: نزع الملكية.. والجاه.. والسلطان.. والحكم.. والهيمنة.. والسيطرة.. والنفوذ… وردها إلى الله جميعها.. دون أي نقص، وهذا يعني: الإعتراف.. [الاعتراف] والإقرار.. بأنه لا يحق.. إدارة شؤون الحكم.. ولا تنظيم المجتمع.. ولا الفصل في قضايا الناس.. ولا القضاء في خصوماتهم.. ومنازعاتهم.. ولا ترتيب شؤون القبيلة.. ولا الفرد.. ولا الأسرة.. ولا إدارة شؤون البيع.. والشراء.. والزراعة.. وتنظيم شؤون الفرد.. والأسرة.. والمجتمع.. والدولة.. وسياستها الداخلية.. والخارجية.. والعلاقات الدولية.. والشؤون التعليمية.. والإقتصادية..[الاقتصادية] والتجارية.. والصناعية.. والثقافية.. والفنية.. والمسارح.. والسياحية إلا الله [لله] وحده لا شريك له.. ولا يتوافق مع التوحيد.. أن يكون علمانيًا .. أو شيوعيًا .. أو يساريًا .. أو يمينيًا .. أو بعثيًا .. أو قوميًا .. وغيره من الأحزاب الضالة … فكل من يشارك في البرلمان.. ويقسم على احترام دستور وثني.. شركي.. فهو مؤيد وداعم للشرك.. ولو كان من الجماعات الإسلامية”.

ولكن الدكتور السباعي لا يشرح لنا كيف يُمارس الله حكمه في أرض الواقع، وكيف يُطبقه؟ طبعًا لن يهبط رب العالمين من عرشه ليدير شؤون البلاد والعباد مباشرة، ففي هذه الدنيا سيحكم بشرٌ بشرًا. ولكن كيف؟

من المؤكد لا يختلف عاقلان على الدور الذي لعبه القرآن الكريم والدين الإسلامي في نهضة عرب نجد في القرن السابع؛ وحتى العاشر، وبناء إمبراطورية امتدت من الصين وحتى الأندلس، ولا يختلف عاقلان على الدور الذي يلعبه الدين الإسلامي في البناء الروحي للمسلمين في العالم اليوم، لكن مشكلة مجتمعاتنا اليوم، فيما لو اتبعنا ما يماثل رأي الدكتور السباعي، تكمن في أن الحكم على الأرض يكون “استنادًا .. واعتمادًا على ما قرره الله.. ورسوله فقط.. لا غير.. [وحسب]”.

إن كل ما جاء في القرآن الكريم، وهي آيات نزلت لأسباب محددة (أسباب النزول)، وكل ما ورد من أحاديث نبوية، إنما وردت لأسباب محددة (أسباب الورود)، وحتى لو تجاوزنا مسألة صحة روايتها، وحتى لو اعتمدنا أعمال الصحابة والأولين كلها، وأخذناها كما هي، فجميعها لا يفي سوى بجزء يسير جدًا جدًا مما تحتاجه حياتنا اليوم؛ لأن الأسباب التي نزلت، أو وردت بسببها لا يتكرر ما يشابهها في حياتنا المعاصرة المعقده والمركبة أكثر بألف الف مرة مما كانت عليه قبل 1400 عام، أو حتى قبل مئة عام.

بسبب هذا البعد الشاسع جدًا  بين القضايا المعاصرة، وبين النص المقدس، أو الحديث الشريف، أو أعمال السلف الصالح التي يقاس عليها، فإن الفقهاء الذين سيضعون اليوم أسس وقواعد طيف واسع جدًا  جدًا  من الموضوعات المعاصرة المعقدة، ويقررون ما هو شرعي وجائز، وما هو حرام وغير جائز، سيلجؤون إلى التفسير والقياس والاجتهاد المحكوم بمعايير الماضي، سيضعون أحكامًا  وقواعدَ ونظمًا تفصيلية من عندهم، بحسب فهمهم ومعارفهم ومصالحهم، أي: سيضعون قواعد وضعية في حقيقتها، حتى لو زعموا أنها تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله، ورطنوا بعبارات دينية، هي أشبه بدخان التضليل. هذا؛ إذا تجاوزنا ضعف أو انعدام معرفتهم بمعظم جوانب حياتنا المعاصرة التي تتطلب خبرات خاصة بها، لا تحتوي الكتب الدينية أو تجارب الماضي شيئًا عنها، ويستوي في هذا جميع الأديان والعقائد القديمة. فكل شيء في مجتمعنا اليوم جديد ومختلف كثيرًا عن الماضي؛ إذ لم تعد نظم الماضي التي تنظم الحياة الدنيا كافية أو مناسبة لها. مثلًا؛ لا أعلم كيف يجوز لرجل دين أن يفتي بموضوع البنوك والتأمين وسوق المال والاستثمار، وفي قضايا الطيران أو سفن الفضاء والطاقة والطاقات المتجددة وقواعد حماية البيئة وتنظيم الإنترنت أو الفضاء السبرنيتيكي [السبرانية]، أو حتى نظم التعليم ونظم الصحة ونظم الإدارة العامة ونظم الشركات العابرة للقارات المعقدة جدًا، أو قضايا القضاء المتشعبة أو التحكيم التجاري الواسع، وغيرها كثير، بينما لا يوجد أي نص حولها، ولم يوجد ما يشبهها من قبل، لا من قريب ولا من بعيد؛ كي يقاس عليه! ولا يكفي قياس قضية معاصرة واسعة على حديث أو حدث صغير قبل 1400 عام، قد يشبهها بنسبة واحد بالمئة، ثم نضع حكمًا فيه 99 بالمئة من اجتهادنا، ثم نقول: “هذا هو أمر الله”، فهذا افتئات على رب العالمين، واستخدام مزيف لإرادته.

وفي هذا السياق، أود لفت انتباه الدكتور السباعي إلى أن جميع البلدان الإسلامية تطبق الأنظمة التي أنتجتها بلاد “الكفر” في إدارة شؤون الحكم.. وتنظيم المجتمع.. والفصل في قضايا الناس.. والقضاء في خصوماتهم.. ومنازعاتهم.. وترتيب شؤون الفرد.. والأسرة…. والمجتمع.. والدولة.. وسياستها الداخلية.. والخارجية.. والعلاقات الدولية.. والشؤون التعليمية.. والإقتصادية.. والتجارية.. وإدارة شؤون البيع.. والشراء.. والزراعة والصناعية.. والثقافية.. والفنية.. والمسارح.. والسياحية، وتنظم هندسة البيت والمدينة وأسواقها ومرافقها، ونظام الصحة، ونظام التعليم بكامله، وتنظم الجيوش، وتنظم الحكومات، والدوائر، ونظم السير والمواصلات والاتصالات، وتنظيم الشركات وطرق إدارتها، وكل شيء تقريبًا  من نظم تطبقها البلدان الإسلامية، إنما طورتها بلدان “الكفر”، وتستورد البلدان الإسلامية كل شيء من بلاد “الكفر” التي يدعوا المتزمتون إلى هدمها. وقد وضعت جميع تلك الأنظمة، وصُممت كل تلك المنتجات وفق مناهج وقيم لم تعتمد -قطّ-  على ما يدعو إليه الدكتور السباعي. ولكن بلداننا تأخذ بكل تلك النظم، وتستورد كل تلك المنتجات بطريقة اتباعية، وليس إبداعية؛ لأنها لا تبحث عن الأسباب الجوهرية في نجاح تلك الشعوب في تحقيق كل هذا التقدم، وأسباب بقاء بلداننا متخلفة خاضعة لنفوذهم، وتحتاجهم في كل شيء. وجوهر نجاحهم يقوم على العقلانية واستخدام العقل وعدم مصادرته من الكنيسة، وإعلاء شأن الحريات العامة والفردية، وتشجيع النقد والبحث وطرح الأسئلة دون محرمات وتكفير؛ ما أفسح في المجال أمام أفرادهم وشعوبهم للإبداع، وخلصهم من الاتباع وسيطرة الكنيسة التي أعاقت سيطرتها تقدمهم طوال القرون الوسطى.

يتضمن عنوان مقالة الدكتور السباعي “معنى التوحيد.. الذي يجعل من يطبقه.. مسلمًا “. نفيًا لصفة المسلم عن كل من لا يطبق فهمه الذي يعرضه في مقالته. وبحسب معاييره هذه؛ تكون بلدان إسلامية مثل ماليزيا وتركيا كافرة؛ لأن الحكم فيهما للشعب، وفيهما برلمان ونظام ديمقراطي وحريات عامة وأحزاب وصناديق اقتراع وأحكام وضعية، وهما البلدان المسلمان الوحيدان اللذان حققا تقدمًا، لأنهما أخذا بأسباب الحضارة الحديثة “الكفرية”، بينما جميع بلاد المسلمين الأخرى تقريبًا ترزح تحت درجات من التأخر أو التقدم الزائف، أي أن من نجح من المسلمين، وحقق مصالح الناس وأمنهم وكسب رضاهم، هم كفار؛ بحسب معايير الدكتور السباعي.

يبقى السؤال الجوهري الأول الذي تثيره مقالة الدكتور السباعي: من يحدد من هو هذا الحاكم الذي سيحكم استنادًا إلى كتاب الله وسنة رسوله، ومن سيختاره وكيف سنختاره؟

اعتاد أصحاب هذه الأفكار أن يقولوا ب “البيعة”، ويعطونها مسحة مقدسة، ولكن من يبايع من؟ للجواب عن هذا السؤال نرجع إلى تاريخ الممالك الإسلامية على وجه الأرض، فالحكم كان بيعة دائمًا، ولكنها أصبحت، بعد البيعات الأربع الأولى، بيعات مزورة، إذ كان يبايع بضعة أفراد من أتباع الأب ولده على السمع والطاعة، وقد بدأها معاوية بن أبي سفيان، وهو من أعظم ملوك/سلاطين العرب في تاريخهم، أو يبايع رهط من أتباع القائد العسكري المنتصر الذي اغتصب السلطة، وقد بدأها أبو العباس السفاح حين استولى العباسيون على السلطة حربًا، ومن لا يبايع فمصيره الموت. هذا كان على مدى 1400 عام، فهل سيختلف الأمر الآن؟ ثم البيعة تقوم على بضعة أفراد من أتباع الحاكم ومن يأتمرون بأمره؛ نيابة عن ملايين وعشرات الملايين بل ومئات الملايين من المسلمين، فهل يصح هذا اليوم؟

أسلوب البيعة لاختيار من يتسنّم الحكم لا يصح اليوم؛ حتى لو صح في الماضي، وكان هو السائد من قبل، فمثلما لا يصح -اليوم- استخدام الجمال للسفر بدلًا من السيارة، فلا يصح استخدام أنظمة إدارة مجتمعات عصر الجمال لإدارة مجتمعات السيارة والطائرة وسفينة الفضاء والإنترنت، فالبشرية طورت مناهج أكثر عدلًا وكفاية من المناهج القديمة في كل جانب إدارة شؤون الدنيا، ومبدأ البيعة لا يعني “الشورى” التي نزلت بها أكثر من آية كريمة من قريب أو بعيد، بل الديمقراطية وصناديق الاقتراع هي تعبير معاصر أصدق عن الشورى.

والسؤال الثاني: هل يمكن أن يوجد إنسان على وجه الكرة الأرضية يسعى إلى السلطة، وهو منزه عن المصالح الشخصية وعن حب المال والجاه والسلطان؛ كي يبايعه الناس بيعة واحدة أبدية؟

الجواب -بالقطع- لا، فللحاكم دائمًا مصالح وله أهواء، أيًا كانَ هذا الحاكم، ومن لم يكنْ فاسدًا في الأصل؛ فالسلطة تُفسِدُهْ. ولا يجوز -من حيث المبدأ- أن توضع في أي يد سلطة مطلقة، دون رقابة وإلى الأبد. ومن ثمّ؛ لا بد من أن يكون تفويض الحاكم من الشعب، ولفترة محددة؛ كي يستطيع محاسبته ونزع السلطة من يده، وأن يكون هذا جزءًا من نظام متكامل يُبنى على الحريات العامة المعاصرة في التنظيم والتعبير، وعلى مجتمع مدني قوي ومؤسسات إعلامية حرة، لا يحتكرها سلطان الحاكم أو رجال المال، وتؤطر نشاط الناس في أحزاب وجمعيات ومنظمات بالمفهوم المعاصر.

إن القول بأن “الحكم لله وحده” هو منهج يراد به خلق طاغوت جديد باسم الدين هذه المرة، مستغلين سهولة خداع الناس عندما تلبس الغايات لبوسًا دينيًا، وهذا ينطبق على جميع الأديان.

تظل الديمقراطية وآلياتها والأحزاب والبرلمانات وصناديق الاقتراع، ومجمل مفردات النظام السياسي الحديث، أفضل ما توصل إليه العقل البشري، ومن توصل إليها هم أنفسهم الذين اخترعوا الكهرباء والسيارة والطائرة والقطار والهاتف المحمول والحاسوب والقمر الصناعي والسفينة التي تغزو الفضاء، وطوروا الطب والأدوية والعلاج، وغيرها كثير مما غير حياتنا وجعلها أفضل بألف مرة. أولاء يقودون العالم اليوم، ونأخذ منهم، وقد كان العرب قبل ألف عام ونيف قادة العالم، والعالم يأخذ منهم وعنهم، والسلطان تداول، وسعي العرب إلى التقدم والتفوق لن يكون بالعودة، كالتاجر المفلس، إلى نظم الماضي وطرق تنظيم المجتمع وإدارته القديمة، فالسيف الذي فتح العرب به العالم أمس، لا يصلح اليوم لأكثر من قطع بطيخة إلى نصفين. فالتقدم اليوم يتطلب الأخذ بما هو معاصر، والعمل لإضافة شيء جديد.

“الدين لله والوطن للجميع”، هذا هو المبدأ الذي أسس عليه رجالات سورية في القرن العشرين دولتهم الحديثة، ويعني أن يبقى الدين الأساس الروحي للبشر، ينظم علاقتهم بالخالق، وينور قلوبهم بالمحبة وفعل الخير، وأن يتوافق البشر في ما بينهم بحرية كاملة على ما هو خير لهم، دون أي قيد.




المصدر