مفاوضات أستانا.. التحديات والتوصيات


مفاوضات أستانا تأتي في وضع حرج جداً (1)

 

الثورة السورية مرت بانتصارات كبيرة على مدى سنوات، وتعرَّضت لانكسارات كان آخرها خسارة حلب... والمشكلة التي تعيشها الثورة حاليا أنها تضطر للذهاب إلى مفاوضات أستانا، وهي في وضع حرج جدًّا، وذلك بالنظر لعدة أسباب:

الأول: أن روسيا في حالة صعود دولي، ظهر ذلك جليًّا في جورجيا وأوكرانيا، وتقيم علاقات جيدة مع مصر، والأردن، والجزائر، وإسرائيل، فهي تحاول العودة مجددًا كقطب دولي من خلال القضية السورية.

الثاني: أن أمريكا في حالة تراجع دولي، حيث من الواضح أن أهم الملفات الدولية باتت تَتَفَلَّت من يدها شيئًا فشيئًا، الأمر الذي أفسح المجال لمزيد من التَّفَرُّد الروسي في المنطقة.

الثالث: أن الفصائل العسكرية والمكونات السياسية تعيش حالة من التَّرَهُّل والاضطراب، خاصة بعد الانكسار الذي تعرَّضت له الثورة في حلب.

الرابع: أن الثورة السورية وبعد دخولها عامها السادس لم تستطع أن تفرز مؤسسة عسكرية ناضجة، ترتبط بها عضويًّا مؤسسة سياسية احترافية، بحيث تعملان بشكل مركزي، وهذا يُعَدُّ أحد أهم عوامل ضعف الثورة.

لماذا نخاف من مفاوضات أستانا (2)

كانت روسيا على مدى سنوات تنظر إلى الثورة السورية بعين واحدة، وكانت تتبنى رواية النظام بشكل دائم، ثم تنبَّهت للخطأ الذي ارتكبته بتجاهلها للحراك السياسي والعسكري للثورة السورية... فعملت على إنتاج معارضة شكلية في القاهرة وموسكو، واستطاعت في الرياض توسيع طيف المعارضة عبر إدخال معارضين مقربين من النظام... ولا تزال روسيا تعمل في نفس الاتجاه، حيث تسعى لاحتواء الثورة ضمن مؤسسات النظام، وتُصِرُّ على اختزال الثورة بمفاوضات بين المعارضة المسلحة والنظام، ما يجعل التعريف الحقيقي لهذه المفاوضات "مجموعات من المسلحين والمتمردين أمام نظام شرعي معترف به دوليًّا"، وأعتقد أن هذا أكبر فخ يمكن أن تُسَاق له الثورة السورية خلال مسيرتها.

إن المتابع لمجريات الحدث بعد توقيع وقف إطلاق النار في ديسمبر 2016 يدرك أن روسيا وحلفاءها لم يلتزموا أبدًا بهذا الاتفاق، بل إن روسيا نفسها لم تعد ضامنًا حقيقيًّا لهذا الاتفاق، وتصريحاتها تدل على ذلك، فقبل عدة أيام صرَّحت الأركان الروسية أن "عملية تحرير ريف دمشق شارفت على الانتهاء"... وفي اليوم نفسه قصف الطيران الحربي الروسي أحياء حلب من جهة الريف الغربي، والراشدين، وخان العسل، وريف المهندسين، وقصف تفتناز وسراقب وبنش في ريف إدلب خلال اليومين... ما يشير بوضوح إلى أن روسيا تتجه إلى تقليص وقف إطلاق النار جغرافيًّا، وحصره في شمالي سوريا فقط، وينبغي ألا ننسى أن هذه كانت وجهة نظر روسيا قبل توقيع وقف إطلاق النار في ديسمبر.

هناك اختلاف واضح بين الورقة الروسية التي قدمت لمجلس الأمن والورقة التركية، حيث تنص الورقة الروسية على السعي لتخفيف مستوى العنف في البلاد، وتسهيل القيام بالأعمال الإنسانية، ولم تنص أبدًا على أي عملية انتقال سياسي، ما يؤكد أن روسيا لا تزال تتعامل مع الثورة السورية من منظور عسكري فقط... ويزيد الشكوك لدينا أن روسيا سوف تعمل من خلال مؤتمر أستانا على تجاوز مرجعية جنيف عمليًّا، والتي تنص بوضوح على هيئة حكم انتقالي، والبدء بعملية انتقال سياسي، وتتضمن كذلك خطة النقاط الست... إن الإطار العام لما يحدث يشير إلى أن روسيا تعمل على تجاوز جنيف والاكتفاء بقرار مجلس الأمن 2254، والذي خلا من بنود بيان جنيف أو أي إشارة إليه، وهو يُرَكِّز فقط على وقف إطلاق النار من جميع الأطراف، ويطالب الأمم المتحدة برعاية المفاوضات، وإجراء انتخابات خلال 18 شهرًا.

هل علينا الذهاب إلى مفاوضات أستانا (3)

ارتكبت الثورة السورية خطأً كبيرًا حين تساهلت في طرح نفسها كمشروع سياسي في المحافل الدولية، واقتصرت على تعريف نفسها من خلال فوهات البنادق، ولا زلنا ندفع ثمن هذا الخطأ حتى الآن... فيما استغل النظام وحلفاؤه حالة الانكماش السياسي التي تعاني منها الثورة ليقوموا بحملات التشويه، وتفريغها من مجموعة القيم والمبادئ التي قامت عليها، وتسويقها في وسائل الإعلام المحلية والدولية تحت عناوين التطرف والإرهاب.

إن المتابع لمجريات الحدث السوري وتداعياته وتطوراته الإقليمية والدولية يدرك تمامًا أن الثورة السورية شهدت تحولًا كبيرًا على المستوى العسكري بسبب التدخل الروسي في سبتمبر، وهي تشهد الآن تحولًا آخر على المستوى السياسي كنتيجة لذلك التدخل... وكانت قد بدأت المعركة السياسية يوم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في ديسمبر، ولا شك أنه لا يحقق الآمال والطموحات، إلا أن اختلال موازين القوى على الأرض لصالح روسيا وحلفائها لا يسمح بأكثر مما كان... وبالرغم من ذلك فإن الثورة حققت بعض المكاسب من توقيع الاتفاق السابق، منها الاعتراف الضمني بالمعارضة المسلحة، التي كانت تعتبرها روسيا يومًا ما فصائل إرهابية... لكن الأهم من ذلك على الإطلاق أننا استطعنا توسيع الشَّرْخ بين حلفاء النظام "روسيا وإيران"، وزيادة التَّصَدُّعَات بينهما.

عندما نتكلم عن التقارب الروسي التركي في الأشهر الأخيرة فنحن نتحدث عن زلزال ضرب العلاقات الروسية الإيرانية، ربما تبقى تداعياته وآثاره إلى ما بعد انتهاء القضية السورية، وفي الوقت نفسه فنحن نتحدث عن تغيير لقواعد اللعبة في المنطقة، وذلك عبر تحوُّل تركيا بالقضية السورية شرقًا... ونحن ما زلنا نعتقد أن خروج قضيتنا من الاحتكار الدولي لصالح مشاركة أوسع على المستوى الإقليمي يسارع في حلها، ويخفف من تبعاتها الإنسانية... إلا أن الغياب العربي الملحوظ "السعودية وقطر" عن دائرة التنسيق الروسي التركي ستكون له تداعيات سلبية جدًّا على المدى البعيد، كما أنه لا يَصُبُّ في مصلحة تركيا والثورة السورية على أي حال.

النظام وإيران يشعرون بالخطر كلما اقتربت القضية السورية من الحل السياسي؛ لذلك يعارضون عمليًّا إعلانات وقف إطلاق النار، بل يحاولون التشويش عليها بهدف إفشالها من قبل المعارضة؛ لأن هذا سوف يجردهم من أسلحتهم الأساسية في هذه المعركة، والمتابع للحدث يدرك أن النظام رفض التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في ديسمبر، إلا أن الضغط الروسي حال دون ذلك... الذهاب إلى أستانا قد يكون مقدمة لإطلاق عملية سياسية جديدة، وتصحيح مسار المجتمع الدولي في تعامله مع القضية السورية... إلا أن النتائج غير مضمونة أبدًا، واحتمال العودة من دون مكاسب وارد جدًّا، خاصة أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية "إيران وأميركا" يهمهما إفشال هذه المحادثات.

لكن قد يتساءل البعض أليس الذهاب إلى أستانا مع عدم تحقيق وقف إطلاق نار شامل إساءة لشعبنا وقضيتنا، وبيعًا لمنجزات ثورتنا؟ والجواب أن منجزات ثورتنا أصبحت في خطر لحظة التدخل العسكري الروسي، وعدم تحقيق وقف إطلاق النار لا ينبغي أن يدفعنا لهدم الاتفاق، خاصة أنه لا ينص على أن المعتدى عليه ليس له حق الرد... ومعنى هذا أنه كان ولا يزال على الفصائل أن تتجهز للرد على الخروقات المتكررة بمعركة كبيرة، وليبدؤوا اتفاق وقف إطلاق النار بإطلاق النار، وليرسلوا مفاوضين محاربين إلى أستانا، هذا هو الرد الحقيقي على الاتفاق.

اقتراح قبل الذهاب إلى مفاوضات أستانا (4)

وأختم ما ذكرته من الكلام أعلاه بمقترح يتضمن ست نقاط:

العمل على إيجاد المرجعية السياسية الموحدة للثورة السورية خلال 48 ساعة، وهي بدورها تتولى تشكيل الوفد المفاوض، مع الأخذ بعين الاعتبار تمثيل المجلس الإسلامي السوري، والائتلاف الوطني، والهيئة العليا للتفاوض، والفصائل العسكرية.

تثبيت وقف إطلاق النار بشكل مباشر على كامل أراضي الدولة السورية دون استثناء، والبدء الفوري بتطبيق الاتفاق في وادي بردى والمناطق الساخنة في جنوب العاصمة.

نشر قوة مشتركة من الضامنين "روسيا وتركيا" في المناطق المحاصرة بشكل أولي للإشراف على تثبيت وقف إطلاق النار، ولمنع حدوث أي خروقات، بحيث تتواجد كل قوة في طرف حليفها، وتنسق القوتان مع بعضهما البعض.

اختبار وقف إطلاق النار خلال الأيام العشرة القادمة قبل انعقاد مؤتمر أستانا، والتأكد من مدى جدية روسيا والنظام وإيران بالالتزام بذلك، حيث ما زلنا نعتقد أن روسيا ليس لديها إرادة جَادَّة في وقف إطلاق النار في مناطق جنوبي العاصمة.

إدخال المساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق المحاصرة قبل انعقاد المؤتمر في 23 يناير.

اشتراط الذهاب إلى أستانا على اعتبار أن تكون المحادثات ذات طبيعة سياسية عسكرية، وعلى أن تستند إلى جنيف كأساس ومنطلق لهذه المحادثات.