الطلقات الأخيرة في أحياء حلب الشرقية

بقيَت أصابعهم على الزناد طويلاً في أحياء حلب الشرقية، شهدوا معارك التحرير والقصف والصراعات الداخلية وقسوة الحصار، واليوم يتحدثون عن تلك الأحياء في الأيام والساعات الأخيرة، وعن آخر طلقاتهم ولحظاتهم فيها.

عليّ هو واحدٌ من مقاتلي الجيش السوري الحر في حلب، بدأ حديثه عن الأيام الأخيرة بشتم قادة الفصائل الذين رفضوا الاتحاد، وبعد الشتائم تابع كلامه:

رابطنا في حي طريق الباب سبعة أيام، منذ سقوط حي الصاخور في 27/11/2016 وحتى 3/12. كان هناك كثيرٌ من أبناء المدينة الذين تطوعوا للوقوف في وجه الأسد وحلفائه، وكنا على ثقة بأننا سنحمي المدينة.

عند دخول الجيش إلى مساكن هنانو طلبنا من قائد القطاع في الجبهة الشامية السماح لنا باسترجاع المنطقة، لكنه طلب منا الحفاظ على أماكننا قائلاً إن مهمتنا تقتصر على الدفاع عن المنطقة.

التفَّ جيش النظام علينا من منطقة المعصرانية المجاورة، فطلبنا حشوات مضادة للدبابات والدروع لكنهم لم يعطونا. لم يكن معنا إلا سلاحنا الفردي، فانسحبنا نحو حي المشهد تاركين المنطقة لقدرها، بعد أن خذلنا قادتنا وخذلنا العالم أجمع.

تبخرت خمس سنوات من الثورة أمامنا، فيما صور رفاق الدرب والسلاح الذين استشهدوا كانت تمرُّ أمام أعيننا التي اكتفت بالبكاء أمام العجز الذي رافقنا. رفض كثيرون الانسحاب والخروج، وانقطعت أخبارهم. ظلّوا هناك يدافعون عن المدينة، وليتني فعلتُ مثلهم.

رفضنا الخروج في الحافلات الأولى منذ بدء الحديث عن إخراجنا من المدينة، كنا ندرك أن هذا النظام ليس له عهد، خفنا على أهالي المدينة فوقفنا لحماية الأحياء المتبقية. حاولوا مراراً التقدم من جبهة حي الإذاعة، واستشهد كثيرٌ من الشبان لكننا استطعنا إيقافهم.

بدأت الحافلات بالخروج في الخامس عشر من كانون الأول، كنا نسمع عن حافلات عادت وأخرى أُوقفت، وعن هدنة وعن خرق للهدنة. الحقيقة أنه لم تكن تعنينا كل هذه الهدن، وكل ما كان يدور في داخلي أنني سأبقى هنا حتى خروج آخر مدني، الشهادة وحدها كانت ستمنعني من ذلك.

في 21/12/2012 كان معظم المدنيين قد خرجوا، ولم يبق إلا عائلات قليلة والثوار الذين ظلّوا حتى النهاية. ركبنا الحافلات وكثيراً من السيارات المدنية، كان الطريق طويلاً جداً علينا، فالوقت يمر ببطء، ومعه الذل على الحواجز وخروجنا منكسرين.

أطرقتُ برأسي في السيارة التي كانت تقلني، خفتُ أن أرى الوجوه. طلب منا الهلال الأحمر التخلي عن أسلحتنا تجنباً للاستفزاز، وللمرة الأولى منذ أربع سنوات تركت بندقيتي.

الثلج كان قد بدأ يغطي أسطح المنازل، لكنني شعرت أن بندقيتي كانت دافئةً، مسحتها بالزيت ولمستُ حبلها الجلدي وقبلتها، ندمتُ لأنني لم أحفر على أخمصها كلمة حرية. شعرتُ أن أحدهم سيحملها بعدي فقمتُ بدفنها لعلّي أعود، أو ربما يجدها ثائرٌ آخر.

ثلاث عشرة ساعة مُنعنا فيها من الخروج حتى لقضاء الحاجة، السيارات كانت تمرُّ ببطء، والحواجز التي يغطيها علم الظلم والشعارات الطائفية كانت تقتل في داخلي كل شعور بالحياة. أغمضتُ عينيَّ رغبةً بالهرب، تمنيتُ لو أستطيع النوم، ولكنني فشلت.

وصلتُ إلى هنا، أنا الآن في سرمدا بريف إدلب، لم يفلح فرح الناس بقدومنا في انتزاع الغصة من حلقي. كل الكلام عن الخروج المشرّف والعودة بات غباءً بالنسبة لي، وبدا كأنه شتيمةٌ تلتصق على وجهي.

 

المصدر: رويترز

أبو أحمد، 30 عاماً، وهو أحد القادة الميدانيين في مدينة حلب، رفض ذكر اسمه أو الفصيل الذي ينتمي له خوفاً من تبعات ما سيقوله، لكنه في الوقت ذاته روى لنا قصته كاملة منذ سقوط مخيم حندرات، وحتى خروجه مع مقاتليه إلى خارج المدينة بموجب الاتفاق الذي قضى بتسليم المدينة وتهجير أهلها:

أعرفُ الكثير عن تسليم المدينة والخيانات والتقاعس الذي حدث، لكنني قبل كل شيء أب ولدي عائلتي التي كانت تعيش معي كل هذه الفترة، ومقاتلٌ خضت معارك على جميع الجبهات منذ الأيام الأولى للثورة، وليس كل ما أعرفه يمكن أن يقال.

مع سقوط طريق الكاستيلو وحصار مدينة حلب من كافة الجهات في 17/7/2016، وقبلها سيطرة قوات الأسد على مزارع الملاح في الجهة الشمالية من المدينة، كنا نعرف أن قوات الأسد وحلفاءها سيتجهون نحو السيطرة على كامل مخيم حندرات، المنطقة الهامة التي ستؤمن لهم طريق الكاستيلو وتعزز نقاطهم الخلفية.

كان هناك نقاطٌ للواء السلطان محمد الفاتح، ونقاطٌ لتجمع فاستقم كما أمرت وأحرار الشام ونور الدين الزنكي، ولكن حركة نور الدين زنكي كانت هي المسيطرة الفعلية على القطاع، كونها كانت القوة الأكبر العاملة على الأرض هناك.

كانت النقطة السادسة والسابعة في حندرات هي الأهم، وكانت دوماً تشهد اشتباكات قوية ومحاولات من قبل قوات الأسد للدخول إليها والسيطرة عليها، لأنه عند سقوط هاتين النقطتين يصبح طريق الإمداد من مفرق معمل كراش وحتى حندرات مرصوداً نارياً.

لم يكن هناك في هذه النقاط أي سلاح ثقيل، بل يحضر السلاح الثقيل فقط عندما يكون هناك تصوير. سقطت تلك النقاط أكثر من مرة، وكنا عن طريق المؤازرات نستعيد هذه النقاط خلال ساعتين أو ثلاث على الأكثر.

في بداية الشهر العاشر سقطت هذه النقاط، وسقط مخيم حندرات بالكامل. دام الاجتماع في غرفة العمليات من الساعة السابعة حتى الساعة الثانية ليلاً لتنفيذ هجوم معاكس لاستعادة المخيم، ولكن الأوامر أتتنا بالتخلي عن حندرات وتثبيت نقاط جديدة في منطقة الشقيف التي تبعد حوالي 1 كم عن حندرات إلى الجهة الغربية.

جبهة حندرات كانت من أسخن الجبهات في مدينة حلب، ولكننا فوجئنا قبل يومين من اقتحام الجيش بفك البرج الذي نتصل به عن طريق القبضات اللاسلكية. لا أعرف السبب وراء فكّه، ولكن سقوط حندرات كان البداية الحقيقة لسقوط المدينة.

انتقلت نقاط الرباط إلى منطقة الشقيف والعويجة، ثم تمَّ الانسحاب من منطقة الشقيف بعد ذلك بأيام دون أي طلقة، حيث سيطرت القوات الكردية على المنطقة من جهة الشيخ مقصود حتى مطعم الكاستيلو، فيما سيطرت قوات الأسد على الطرف المقابل وصولاً إلى المعامل وجسر الشقيف.

أما على جبهة العويجة فقد كان هناك اشتباكات خفيفة وتبادل للسيطرة على النقاط بين أخذ ورد، مع رصد الطرقات الرئيسية للمنطقة بالقناصة المتواجدين على جبهة حندرات، ما تسبب بسقوط شهداء في كل يوم من النساء والأطفال وبعض المقاتلين.

في تلك الأثناء قامت جبهة فتح الشام -على حد قولها- بمحاسبة المتخاذلين الذين سلموا المنطقة، وقامت بإفراغ 15 نقطة من جبهة الشيخ رز وبستان الباشا، وعدد المقاتلين فيها كان يقارب 270 مقاتلاً معظمهم من الفرقة 16، ليغطي مكانهم فصيل المنتصر بالله وجبهة التركمان والسلطان مراد ومحمد الفاتح.

دارت خلافات كبيرة نتيجة ذلك، إذ ليس الجميع فاسدين، وإذا كان هناك من تجب محاسبته فهم القادة فقط، ولكن القرار كان قد اتُخِذ وساندت حركةُ نور الدين الزنكي جبهةَ فتح الشام، فلم نستطع فعل شيء ورضخنا للأمر الواقع لأنهم الأقوى على الأرض.

في 6/10/2016 سقطت كتلةٌ من المباني في حي بستان الباشا، ولكننا استطعنا استعادتها، ثم فوجئنا بدخول قوات الأسد إلى محطة مياه سليمان الحلبي، ولكننا أيضاً استطعنا استعادتها بعد أن قدمنا كثيراً من الشهداء.

بعد ذلك حشدنا قواتنا في حي بستان الباشا لتدعيم جبهة الشيخ رز، وتعزيز النقاط في منطقة الشيخ خضر لحماية مؤسسة المياه. هدأت المنطقة نسبياً لمدة شهر، ولكننا كنا نخوض ما يشبه حرب استنزاف هناك. كنا شبه محاصرين ولا يدخل إلينا سلاح أو غذاء، وكان علينا ان نشتبك في أكثر من منطقة ونخسر كثيراً من الذخيرة لإيقاف هجمات قوات الأسد.

في 20/11/2016 بدأ التمهيد على منطقة مساكن هنانو، كان التمهيد الأعظم الذي رأيته في حياتي، قصفٌ بالمدفعية والراجمات والبراميل والطائرات الحربية على مدار الساعة. استمر التمهيد حوالي 6 أيام حتى سقط الحي بأيدي قوات الأسد، التي دخلت من الأحياء التي تسمى البيوت العربية، وتشكل طوقاً من الجهة الجنوبية لحي مساكن هنانو، واستمرت بالتقدم في منطقة الأرض الحمرا وجبل بدرو، حتى وصلت إلى الأوتوستراد مقابل فروج الشرق في أول حي طريق الباب. كان المرابطون في حي مساكن هنانو هم كتيبة أبو شقرا التابعة لحركة الزنكي، وفي بعض النقاط مقاتلو الجبهة الشامية.

لم يكن سقوط الحي تخاذلاً، ولكن كثافة النيران كانت هائلة بحيث أجبرت كثيراً من المقاتلين على الانسحاب، ليواجه كثيرون منهم تهمة الخيانة والتخاذل، وتم استدعاء البعض للتحقيق معهم.

تركزت القوات في نقاط الرباط الجديدة في حي الصاخور والحيدرية وبستان الباشا،

وفي غرفة العمليات كان الحديث يدور مع عادل أبو روان، وهو مسؤولٌ في القوات الكردية، عن مفاوضات لإدخال الطعام والمحروقات مقابل تسليمه منطقة الهلك وبعيدين وبستان الباشا، ولكنه بعد قبوله رَفَضَ في اليوم التالي تنفيذ الاتفاق، وبدأ التمهيدُ الناري على مناطق الحيدرية والصاخور وبستان الباشا.

بدون أي مقاومة تذكر انسحب الثوار من شركة المياه ومن النقاط 8 و11 في منطقة بستان الباشا على جبهة الشيخ رز في 29/11/2016، كان الانسحاب صادماً ولم تأتِ أي مؤازرات حتى الساعة السابعة مساءً، أي بعد حوالي 8 ساعات من سيطرة القوات الكردية ومعها مقاتلون من جيش الثوار على نقاط بستان الباشا، وسيطرة قوات الأسد على محطة المياه.

دارت اشتباكات عنيفة ولكننا لم نستطع معاودة التقدم في المنطقة، فانسحبنا نحو أحياء طريق الباب والشعار، وسقطت أحياء بستان الباشا، الشيخ خضر، الهلك، الحيدرية، الصاخور، بيد قوات النظام وحلفائها، والميليشيات الكردية. شهدَ حي الصاخور الاشتباكات الأعنف والمجازر الأكبر التي ارتكبتها قوات الأسد نتيجة لكثافة النيران بكل أنواع الأسلحة.

صار الفاصل بين النقاط التي يسيطر عليها الثوار وقوات الأسد هو الأوتوستراد الممتد من دوار الصاخور وحتى مطار حلب المدني، ومعظم الفصائل الصغيرة بدأت بالانهيار والانضمام إلى الفصائل القوية، التي كان أكبرها من حيث العدد حركة نور الدين الزنكي وأحرار الشام، وأما من حيث القوة النارية فقد كان تجمع فاستقم كما أمرت هو الأقوى.

في 1/12/2012 صارت النقاط الجديدة للثوار في حي كرم البيك وصولاً إلى سد اللوز القريب من حي الشعار، بعد أن سقطت معظم الأحياء الشرقية. لم يدم بقاؤنا كمقاتلين في هذه المنطقة سوى يوم واحد، لننسحب بعدها نحو حي الشعار مباشرة.

خريطة السيطرة كانت تتغير في كل ساعة، وخلال تواجدنا في كرم البيك كان يمر من أمامنا في كل ساعة مئات المدنيين المتجهين نحو مناطق سيطرة النظام هرباً من كثافة النيران، والجحيم الذي تطلقه الطائرات عليهم.

معظم الأسلحة الثقيلة كانت قد نُقِلَت قبل ذلك نحو حي الزبدية وسيف الدولة وصلاح الدين وجسر الحج، وهي الأحياء التي حوصرنا فيها جنوب غرب حلب في النهاية. كان قد بات واضحاً أن قوات الأسد تسعى لتقسيم حلب الشرقية إلى أقسام كي تستطيع حصار الفصائل، ويسهل عليها دخول هذه المناطق.

تقدمت قوات الأسد من جهة المعصرانية ومن جهة الميسر لإطباق الحصار على المقاتلين في حي الشعار وكرم الجبل من كافة الجهات، وكان التمهيد قد بدأ على حي الشعار في الوقت ذاته، فانسحب أبو عبد الرحمن كرم الجبل ومقاتلوه تجنباً للحصار نحو دوار قاضي عسكر، ومعظم المقاتلين في الشعار انسحبوا أيضاً نحو دوار قاضي عسكر ومشفى العيون/المحكمة الشرعية.

لم يكن قد بقي بأيدينا حتى أبسط أنواع السلاح الثقيل، ولا حشوات ولا دبابات، لا أعرف كيف حدث ذلك، ولكننا فعلياً كنا جميعا نرابط بأسلحة خفيفة فردية.

سيطر النظام على حي الميسر في 4/12/2016 وعلى حي الشعار في اليوم التالي، ودخلت قوات الأسد هذه المناطق سيراً على الأقدام بدون أي مقاومة.

دام بقاؤنا في مشفى العيون ودوار قاضي عسكر يومين، ثم انسحبنا نحو مناطق حلب القديمة ودوار باب الحديد، وبعضنا ذهب إلى منطقة المشهد والزبدية.

بدأت قوات الأسد الاقتحام من جهة باب الحديد وحلب القديمة في 7/12/2016، فطُلِبَت منا المؤازرة، وكان المرابطون هناك هم مقاتلو الجبهة الشامية بقيادة أبو محمد الحزاونة. ذهبنا إلى المنطقة، وعند حي جب القبة قام أحد الحواجز بإيقافنا، وعرَّفَ عن نفسه بأنه من جبهة فتح الشام، وسألنا عن وجهتنا ثم أخبرنا أن المنطقة قد سقطت، وأن حلب القديمة أصبحت «عدواً».

توقفنا وطلبتُ من السائق العودة، فخرجت عندها إحدى السيارات من داخل حلب القديمة، وقال لنا من كانوا فيها إن النقاط ثابتةٌ وما زالت معنا. دار خلافٌ على الحاجز، ورفضوا إدخالنا للمؤازرة، فلم نعد نعرف النقاط التي بقيت معنا والتي سقطت، ولذلك عدنا أدراجنا.

في الوقت ذاته كانت قوات الأسد قد سيطرت على جبهة عزيزة ومنطقة الحرابلة،

وكل ما كنا نفعله هو تثبيت نقاط جديدة للذين سينسحبون إلينا، أما المؤازرات والهجوم المعاكس فقد فقدناه تماماً وكأن المسالة قد حسمت، بينما كانت قوات الأسد تدعّم نقاطها الجديدة وتستمر بالتقدم.

في هذه الأثناء أخرجوا جميع المساجين من سجون جبهة فتح الشام وحركة نور الدين الزنكي وبعض الفصائل الأخرى، كان عددهم ما يقارب 1500 سجين، وكانت أشكالهم غريبة وعلى أجسادهم آثار تعذيب. معظم المساجين كانوا من المقاتلين القدامى، وتم إرسال كثيرين منهم إلى الجبهات، حيث استشهد قسمٌ منهم.

استمرت الانسحابات حتى حوصرنا في أربع مناطق هي الزبدية والمشهد وصلاح الدين وسيف الدولة، بما لا يزيد عن 2 كم. اجتمعنا كلنا هناك، وبدأ الحديث عن الهدنة.

كل النقاط التي سقطت في الفترة الأخيرة لم تشهد اشتباكات عسكرية، كانت عبارة عن انسحابات وأعمال مقاومة فردية من بعض الأشخاص، الذين استبسلوا في هذه المناطق، وكان آخرهم أبطال المجموعة التي استشهدت كاملة في حي بستان القصر.

الأعداد في المنطقة التي تجمعنا فيها صارت هائلة، والشوارع ممتلئةٌ بالناس والمقاتلين، وكل بيتٍ صار يضم أكثر من عشرين شخصاً.

بدأ الحديث عن الهدنة في 13/12/2016، وبجانب البيت الذي أقمتُ فيه كان هناك أحد الحلاقين الذي كان يعمل منذ الساعة السابعة صباحاً حتى آخر الليل، معظمنا حلق ذقنه وغير لباسه.

مستودعات الذخيرة التي رأيناها في هذه المناطق من سلاح ثقيل وغيره كانت تكفينا لأربع سنوات، كنا نحلم فيما مضى أن يكون عندنا رشاشٌ أو دوشكا أو دبابة، لنجدها أمامنا اليوم، وستسلم لقوات الأسد بموجب شروط الهدنة التي تسمح لنا فقط بالخروج ومعنا بندقية وجعبة واحدة.

فوجئنا أيضاً بحجم الغذاء والمواد الأساسية المخزنة في المستودعات، حتى البزر كان مخزناً فيما كان معظم الناس جائعين. المواد التي كانت موجودة تكفي المدينة ستة أشهر على الأقل، ومع بداية الحديث عن الخروج «صارت النعمة بالأراضي».

فُتِحَت المستودعات، وأكلتُ «علبة طون ما شفت متلا بحياتي، شغلة كبيرة، وزنا أكتر من كيلو»، ومثلها كثيرٌ من المواد الغذائية. لماذا إذن كان كيلو السكر بسعر 6000 والطحين بسعر 3000، وغيرها وغيرها.

في 14/12/2016 صارت الهدنة أمراً واقعاً، وكان الاتفاق عبارةً عن أمر إخلاء، لم يُترَك لنا الخيار بالبقاء أو الخروج، كان الأمر يقضي بخروجنا ولو مرغمين، والتجمع كان في ساحة العامرية. لم نستطع إحراق عتادنا، فقد قيلَ لنا إن من شروط الهدنة بقاء السلاح وتسليمه، وكانت طائرات الاستطلاع لا تفارق الجو 24 ساعة، ولكن كثيرين منا قاموا بإتلاف بعض الأسلحة من خلال وضع الطلقة بشكل معاكس ثم إطلاق النار لينفجر بيت النار ويتلف السلاح.

كان الفاروق أبو بكر من أحرار الشام هو المسؤول المباشر على المفاوضات والهدنة، وبقينا نحن في بعض النقاط من أجل حماية المدنيين الذين بدأوا بالخروج فعلياً في 15/12/2016.

بقينا في المدينة حتى الدفعة الأخيرة التي خرجت في 22/12/2016، بقينا في الحافلة 36 ساعة في النقطة الأخيرة للثوار حيث قوات الأسد تبعد عنا حوالي 50 متراً بين أخذٍ وردّ حول بقاء الهدنة وانهيارها، كان الجو بارداً جداً والثلج قد غطى المدينة.

كان الطريق محدداً بمعبرٍ واحد من طرف حي العامرية، وبعض الأشخاص اتجهوا من معبرٍ آخر فقامت قوات الأسد بإطلاق النار عليهم. كانت إحدى الحافلات قد وصلت إلى الحاجز، فقام عناصر الأسد بإنزال كل من كان فيها، لكن المقاتلين قاوموا الحاجز واستشهد مقاتلان، ففتح أحد الثوار قنبلةً كانت معه ورماها على الحاجز قبل أن يطلقوا النار عليه. ما سمعته أن ثلاثة من الثوار استشهدوا وقتها.

سُمِحَ لنا بالمرور بعد ساعات، وكان معنا في الحافلة شخصان من الهلال الأحمر. مررنا على حاجزين، الأول لقوات الأسد والثاني للروس، لم يقوموا بإيقافنا حتى الحاجز الثالث، حيث قاموا بتفتيش حقائبنا. ثم فتح أحد ضباط الأسد الباب قائلاً إن من يريد النزول وتسوية وضعه «في حضن الوطن»، يمكنه ذلك. معظمنا كان من المقاتلين ومعنا بنادقنا وأيدينا على الزناد تخوفاً من حدوث أي خرق، لم ينزل أي أحد من الحافلة وأكملنا طريقنا حتى خرجنا إلى المنطقة التي يتواجد فيها الثوار في المنطقة المقابلة.

بعدها بساعتين رأيت رتلاً من المقاتلين يخرج ومعهم كثيرٌ من الأسلحة الثقيلة، شعرتُ وقتها بغبائنا نحن الذين تركنا أو دمرنا معظم أسلحتنا واكتفينا بسلاحنا الفردي، ولكن فعلاً لم يخبرنا أحدٌ أنه بإمكاننا إخراج أسلحتنا.

تفرقنا بعد خروجنا، والحديث يدور بيننا عن الذهاب نحو الريف الشمالي والانضمام لدرع الفرات، وكثيرون يجلسون مثلي هنا، يستمعون إلى الأخبار ويتحدثون عن الهدنة طويلة الأمد التي نسمع عنها أو التقسيم. «يالله… عنا أمل بلكي منرجع لبيوتنا منفتح ورشة، منفتح بيت، منعيش. انكسرنا كلنا، الدم اللي راح برقبة مين ما بعرف… بس الله بيعرف».

ليس لدي رسالة أخيرة أقولها، ولكني أريد أن أفضحهم جميعاً، أمنيون وشرطة وإغاثيون وقادة. ظلمونا جميعاً، ظلموا أهل المدينة وجوعوها، وسلموها وأهدروا دماء الشهداء.

 

الباصات الخضراء في حلب / AFP

أبو بيبرس بلايا، مقاتلٌ من حركة أحرار الشام الإسلامية، قال عن قصة خروجه:

في 21/12/2016، وبعد خروج معظم المدنيين، بدأنا بالخروج في قوافل ضمت في معظمها مقاتلين. خرجنا في الحافلات وبعض السيارات المدنية، وخرجتُ أنا بسيارتي مع بعض المقاتلين.

تعطلت سيارتي في الطريق، لنجد سيارةً للهلال الأحمر. صعدنا فيها، وفي الطريق أوقفنا حاجزان للروس وقام عناصرهما بعدّنا. كنا متحفزين لأي شيء سيحدث

في منتصف الطريق، كان هناك حاجز عليه عناصر من حزب الله قاموا بتشغيل شريط لأغانٍ شيعية لاستفزازنا. كان المشهد مؤثراً جداً والعجز كان يسيطر علينا،

أكملنا طريقنا لنصل إلى الجانب الآخر من المدينة، لم نواجه صعوبات في الطريق سوى بعض السيارات التي توقفت نتيجة الثلوج والأعطال.

أما رمضان المرندي، وهو أحد ثوار ضهرة عواد، فهذه شهادته:

 

رمضان المرندي أثناء خروجه من حلب

خرجنا في يوم الأحد 18/ 12/2016 الساعة الواحدة ظهراً بعد أن صعدنا في الحافلات للخروج من المدينة، تقدمت الحافلة إلى أول حواجز النظام في النقطة صفر عند منطقة الراموسة، فطلبوا من السائق العودة ولم يسمحوا لنا بالمرور.

بقينا حوالي الربع ساعة، وعند استفسارنا سمعنا أنه تم إحراق الحافلات المتوجهة نحو كفريا والفوعة. طلبوا من الحافلة التقدم، فقلتُ لأحد القادة أن دخولنا من الممكن أن يعرضنا للخطر، ولكنه أجابني بأنه تم حل الخلاف وعلينا أن نكمل الطريق.

كنت في الحافلة رقم 6، وعندما وصلنا إلى الساتر الترابي الذي يقف عنده النظام والميليشيات الحليفة له قاموا بإيقافنا، وعند استفسارنا عن سبب الوقوف من الرجل الذي يتبع للهلال الأحمر، أجاب أننا سننتظر اكتمال الحافلات الـ 25 ثم نتقدم.

عندما كان رجال الهلال يطمئنونا أننا ننتظر اكتمال باقي الحافلات فقط، كانت الساعة قد شارفت على الرابعة عصراً.

بعد ساعة تقريباً، وعند غياب الشمس، طلبَ العناصر التابعون لقوات الأسد من الهلال الأحمر إشغال الأضواء في الحافلة، وأتت الأوامر بعدم مغادرة الحافلة نهائياً وعدم النزول منها لأي سبب كان.

حاصر الحافلة عشرة جنود من الجانبين، وقاموا بإحراق الدواليب حول الحافلة والنظر إلينا والاستهزاء بنا، ورفضوا إعطاء النساء والأطفال جرعة ماء رغم مطالبتنا المستمرة للهلال الأحمر بذلك.

عند الساعة 12 ليلاً جاء أحد رجال الهلال الأحمر ومعه لتران من الماء، قام بإعطائنا الماء ورفض مطالبنا المتكررة بالنزول ولو لقضاء الحاجة، ولم يردَّ على الأسئلة حول سبب وجودنا ووقتِ السماح لنا بالمرور.

بعد دقائق سمحوا لخمس حافلات بالمرور، وبقينا نحن في باص أحمر يحمل 83 شخصاً بينهم نساء وأطفال ومصابون بوجوه خائفة، إضافة للجوع والعطش. لا يمكن وصف الحال التي كنا عليها، كان بكاء الأطفال وصراخهم موجعاً جداً، وكانت النساء تحاولن إغلاق أفواه أطفالهن بأيديهن.

في الساعة 3.5 صباحاً صعد إلى الحافلة أحد رجال الهلال، وأخبرنا أنه تمت الموافقة للذين يريدون قضاء حاجتهم بجانب الحافلة، للنساء والأطفال فقط، وعلى مرأى من قوات الأسد وشبيحته، لكن النساء رفضنَ النزول من الحافلة، وتم إنزال الأطفال فقط.

في الساعة التاسعة صباحاً من اليوم التالي، أي بعد 22 ساعة، تم السماح لنا بإكمال الطريق. على الطريق أوقفنا حاجز عليه جنود روس، صعد أحدهم إلى الحافلة وقام بعدنا وتمتم بكلام لم نفهمه، ثم صعد أحد جنود الأسد وطلب من الذين يريدون العودة إلى حضن الوطن أن ينزلوا، لم يجبه أحد.

أكملنا طريقنا حتى وصلنا إلى الجهة المقابلة، حيث كانت تقف بانتظارنا حافلاتٌ للجيش الحر قامت بإيصالنا إلى مراكز الإيواء، بعضنا إلى سرمدا في ريف إدلب، وبعضنا الآخر إلى الأتارب في ريف حلب الغربي.

مصطفى أبو شمس

كاتب وباحث من ادلب
 
aljumhuriya