on
في بؤس حداثتنا الظافرة!
في كتابه من هو شارلي؟، أثار الباحث الفرنسي إيمانويل تود أثراً عاصفاً في المشهد الثقافي الفرنسي منتصف عام 2015. يتناول الكتاب التظاهرة المليونيّة التي عرفتها كثيرٌ من المدن الفرنسية إثر الاعتداء الإرهابي على طاقم تحرير المجلة الفرنسية الشهيرة شارلي إيبدو، تلك التظاهرة التي نزل فيها ما يقارب أربعة مليون فرنسي إلى الشوارع، والتي انضم إليها في باريس عدد كبيرٌ من رؤساء العالم ورموزه، وصوّرها الطيف الأوسع من نخبة المشهد الثقافي الفرنسي على أنها واحدة من مآثر الوحدة الوطنية.
قرأَ تود فيها شيئاً آخر، فهي حسب المقاربة التحليلية القائمة على دراسة خرائط المظاهرات بكافة أبعادها، قد اكتسبت ديناميتها المركزية من الإسلاموفوبيا. تحليلُ نقاط التظاهر وأعداد المتظاهرين، وما إلى ذلك من التفاصيل المملة والمقيتة التي لا يمكن مقارنتها بجلالة الحشود المليونيّة على الشاشات، أظهرَ أن أكثر المدن والبلدات التي شاركت بفعالية في هذه التظاهرة هي نفسها أكثر بقاع فرنسا محافظة وكاثوليكية، وأبعدها عن احترام حرية الصحافة وغيرها من الشعارات التي زينت المظاهرة.
يأتي المشهد الانتخابي الفرنسي اليوم بأسئلته، وبالتعبيرات السياسية التي أفرزها، ليضفي على تحليل تود قدراً غير قليل من الوجاهة. ما كان يمكن لهذا الجدال أن يتخذ كل هذا الصدى لو لم يكن إيمانويل تود هو من طرحه، فالرجل قامة فكرية بارزة عُرِفَت بطروحاتها الإشكالية التي طالما تباينت مع منطق الميديا، وأثبتت تماسكها مع الزمن، وقدرتها العالية على التقاط الجوهري المستتر بعيداً عن بهرجة الميديا. كيف لا وقد اكتسب تود زخمه في المشهد الثقافي والفكري بعد تنبؤه بسقوط الاتحاد السوفييتي معاكساً كل التوقعات، وهي النبوءة التي اعتمدت على تحليل المعطيات الإحصائية للمجتمع السوفييتي بعيداً عن مانشيتات الجرائد والخطب السياسية. إنه ذلك التحليل العميق الذي يحاول أن يحصل على أجوبته انطلاقاً من معطيات نادراً ما تتمكن من إغرائك لمناقشتها وأخذها في الحسبان، والذي يحاول فهم حركة التاريخ من خلال تعبيراته الأكثر خمولاً.
يشترك تود مع مفكرين آخرين كأوليفيه روا وصادق جلال العظم وغيرهما في الأطروحة القائلة إن ديناميات الحداثة قد انتصرت في العالم العربي والإسلامي، وإن هذا العالم وصل إلى مرحلة من العلمنة والتعولم بما يمنع عنه التراجع. أي أننا إذا أردنا النظر إلى حركة التاريخ في هذه المنطقة فإنها صاعدة نحو «الحداثة» بشكل من الأشكال، وإن الظواهر التي نعيشها من الردة الدينية وصعود الإسلام السياسي والإرهاب ليست سوى ديناميات مضادة، تحاول عبثاً مقاومة الدينامية الحداثية الظافرة. تجتذب هذه الأطروحة عدداً غير قليل من مثقفي العالم العربي، فهي، عدا عن أصالتها الفكرية وعمقها المنهجي وشموليتها، قادرة على اجتراح الأمل من عتم هذه المنطقة.
***
منذ بضعة أيام، نشرت الناشطة السورية جود عقاد مقطع فيديو أثار عاصفة من المهاترات والسجالات على شبكات التواصل الاجتماعي. فهو يتضمن مجموعة من خواطرها وهواجسها حول موضوع الحجاب، وينتهي باعترافها أنها لم تعد ترتديه منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنها خشيت مصارحة جمهورها على شبكات التواصل بذلك، لتقرر في النهاية خلعه على الهواء مباشرة، في لحظة يبدو أن مشهديتها هي من تمكنت من استفزاز هكذا قدر من المهتمين.
تبدأ الناشطة حديثها بالعودة إلى البداية، إلى اللحظة التي ارتدت فيها الحجاب لتوضّح أنها ارتدته في سن مبكرة كما يُتوَقَع من أي فتاة تنشأ في بيئة متدينة ومحافظة، لتنتهي بأنها تخلع حجابها لعدم قدرته على تحقيق توازنها في عالم اليوم. أولى المشكلات التي طرحها واقع ارتدائها للحجاب هو تناقضه مع واقعها المهني، فلا يمكن للحجاب أن يتناسب مع مهنة الإعلام بحسب جود، كما أن كثيراً من الفرص المغرية قد تسربت من بين يديها بسببه، فالعديد من المنتجين والإعلاميين عرضوا عليها فرصاً هامة وكان خلع الحجاب أحد شروطهم، وبعد هجرتها إلى السويد وتصاعد العمليات الإرهابية في أوروبا، والإسلاموفوبيا تالياً، تحوّل الحجاب إلى حاجز حقيقي في وجه التواصل مع أبناء مجتمعها الجديد.
من الناحية الشرعية، تؤكد جود أن الحجاب فريضة لله وليس للناس، وله وحده بالتالي حق الحساب، وتنوّه أنها لم تخلع الحجاب لأي سبب تحرري، بل وتسخر، فهي لا تريد لشعرها أن «يلامس الحرية» كما تدّعي بعض النسويات عند القيام بانقلابات كهذه، وتؤكد أن الحجاب فريضة دينية حقّة.
لا تبدو جود في خيارها الحداثي هذا وحيدة، فمئات الآلاف من نساء العالم العربي يعشنَ الهواجس نفسها، ويخلصنَ إلى ما يشبه هذه المرافعة البراغماتية لتنتصر «إرادة الحياة»، أو لينتصر واقع الحداثة على التقليد بحسب قاموس إيمانويل تود ورفاقه.
قد يبدو هذا الانتصار سطحياً وغير مؤثر، لكنه ليس سوى تفصيل بسيط في مشهد عملاق يلتهم تفاصيل حياتنا. فهذه الانتصارات بدأت يوم اعتدنا الذهاب إلى المدرسة عوضاً عن المسجد، ويوم استعضنا بالجريدة عن شيخ الجامع، وبالطبيب عن الساحر، وبالحقوقي عن المفتي، وتستمر في يومنا هذا عندما يحاول الإسلاميّون التأكيد على تماشي الإسلام مع منطق العصر عبر ارتكازه على الشورى…
ما يميز جميع هذه الانتصارات هي وحدانية التاريخ وغيابنا، وحده التاريخ ينتصر دون حضورنا كذوات مستقلة وحرة الإرادة، ولم نجرؤ ولا يبدو أننا سنجرؤ في القريب العاجل على المضي، كما فعل فاوست، في أي مغامرة، بل ولا يبدو أن الشيطان يحتاجنا، فالصفقة قد تمت منذ قرون، بعيداً عنا، ولسنا سوى موضوعها.
انتصار جود لإرادة الحياة مثله مثل كثيرٍ من انتصاراتنا، انتصارٌ بطعم الهزيمة. فاليوم وفي عالمنا تحديداً، «أن يكون المرء حديثاً، يعني أن يبذل مجهوداً خارقاً كي يكون مواكباً لكل ما يجري، يكون طبق ما يجري، مقدوداً عليه، يكون أكثر محافظة من كل المحافظين»، كما يقول ميلان كونديرا.
***
في كل مرة أشاهد الفيديو أنتهي إلى وجه إيمانويل تود وهو يقول لي: ألم ترَ؟ يربكني السؤال، فأصمت قليلاً وأبقى حائراً بين الضغط على زر أعجبني، وبين معاودة مشاهدة الفيديو!