د. ديفيد دي روش : كيف يفكر ترامب؟

د. ديفيد دي روش* أستاذ مشارك، مركز الشرق الادنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية، جامعة الدفاع الوطني - واشنطن
لقدشّكل فوز دونالد ترامب،المرشح الذي لا مثيل له في التاريخ الحديث ، صدمة للأمريكينوللمراقبين الاجانب الذين يهتمون بالسياسية الامريكية.
ظــل الــرأي الســائد لــدى قطــاع عريــض مـن المتابعيـن، والـذي اسـتند إلـى العديـد مـن اسـتطلاعات الـرأي العـام، يعتقـد فـي فـوز هيـلاري كلينتـون، وأنها سـوف تعزز مكانتهــا السياســية كأول رئيســة للو يــات المتحــدة الامريكيــة. ولــو كان هــذا الامــر تحقــق لاصبحــت أســرة كلينتــون ســلالة أمريكيـة حاكمـة، قـادرة علـى تسـخير قـوة التكنولوجيـا الجديـدة لتحـول الناخبيـن مـن المجموعـات العرقيـة المتناميـة – سـيما المنحدريــن مــن أصــل إســباني – وربمــا حتــى تســتخدم قــوة ماكينتهــا السياســية عــادة ســيطرة حزبهــا علــى مجلــس الشــيوخ. علــى الجانــب الاخــر، ظهــرت حملــة ترامــب وكأنهــا فــي حالــة مــن الفوضــى. ووصــف محللــو الحمــلات التقليديــة والخبــراء الاستشــاريون، واســتطلاعات الــرأي مــن كلا الحزبيــن التنظيــم بأنــه فوضــوي وعبــارة عــن هــرج ومــرج. وبــدت عمليــة اتخــاذ القــرار مبهمــة، واختيــارات عشــوائية، وهمــس العديــد مــن الجمهورييــن أن حزبهــم يســير نحــو كارثـة محققـة بقيـادة شـخص غيـر مهـذب ومبتـذل خـدع قاعـدة الحـزب الجمهـوري. وهكــذا، لــم يتوقــع اســتط ع رأي وطنــي ذو مصداقيـة (أو موقـع للرهـان السياسـي)
فــوز ترامــب فــي الانتخابــات. وجــاءت نتائــجالانتخابــات بمنزلــة مفاجــأة كبــرى ومغايــرة للــرأي الســائد تمامــاً. فلقــد أثبــت ترامــب أنــه المرشــح التحولـي الـذي نجـح فـي تجـاوز الاسـاليب التقليديـة (والمكلفـة) للتنظيم السياسـي، مثل الحضـور القـوي علـى الارض فـي أماكـن الاقتــراع فــي كل ولايــة وعلــى مســتوى الدولــة. جــذب ترامــب ناخبيــه وقاعدتــه مباشـرة عبـر وسـائل التواصـلالاجتماعي و وســائل الاعـلام، وعلــى الرغــم مــن أن النخـب كانـت تـرى أن تغريداتـه المتكـررة غيــر منضبطــة، فإنهــا وصلــت إلــى الناخبيــن. وفــاز ترامــب فــي ولايــات لــم تصـوت للحـزب الجمهـوري منـذ أجيـال، واحتفـظ بسـيطرة الحـزب الجمهـوري على
مجلـس الشـيوخ مـع فقـدان مقاعـد أقـل ممـا كان متوقعــاً فــي مجلــس النــواب، ويقــف الان علــى أعتــاب مرحلــة غيــر مســبوقة مــن هيمنــة الجمهورييــن علــى واشــنطن. ويمكــن القــول إن ترامــب قــد أعــاد كتابــة قواعــد الحمـلات السياســية فــي الولايــات المتحــدة، إذ إنــه نجــا مــن دون عنـاء مـن الفضائـح التـي كانت سـتبدد آمال المرشـحين السـابقين، فهـو لـم يتحـد الـرأي السـائد فحسـب، بـل أعـاد صياغتـه. ومثلمـا غّيـرت شـركة"أمـازون"قواعـد مبيعـات التجزئـة، نجـح ترامـب فـي جـذب الناخبيـن إليـه مباشـرة مـن دون البنيـة الحزبيـة التـي تطـورت علـى مـر الجيليـن السـابقين. إذن، كيــف ســيحكم ترامــب؟ الاجابــة الموجـزة هـي أن أحـداً لا يعـرف بالتأكيـد، و حتــى الرئيــس المنتخــب نفســه. لكــن متطلبــات الرئاســة كثيــرة، والادارة أكثــر تقييـداً مـن الحمـلات الانتخابيـة. ومـع ذلك، هنـاك بعـض المؤشـرات التـي يمكـن التنبؤ بهـا حـول الكيفيـة التـي سـيكون عليهـا حكم الرئيــس ترامــب بصفــة عامــة، وكيــف سـيتعامل مـع منطقـة الشـرق الاوسـط. هذه قواعـد عامـة ينبغـي أن تسـاعد المراقبيـن علــى تفســير، وربمــا التنبــؤ، بتصرفــات أكثـر السياسـيين غيـر التقليدييـن.
الأول :رجل أعمال وليس دبلوماسياً القاعـدة الاساسـية الاولـى أنـه ينبغـي أخـذ خلفيـة ترامـب كرجـل أعمال في الحسـبان. الدبلوماســيون والسياســيون يعملــون فــي عالـم يعتبـر فيـه كلامهـم بمنزلـة مقترحـات سياســية ولــه تداعيــات سياســية. ويتعيــن عليهــم اختيــار كلماتهــم بعنايــة والتحــدث بنغمــات محســوبة حتــى لا يســاء تفســير مثــل هــذه المقترحــات، وهــذا ليــس عالــم دونالــد ترامــب. خلفيـة ترامـب هـي فـي مجـال الاعمال التجاريـة، وفـي هـذا العالـم كل ًمناقشـة قبل التوقيــع علــى العقــد (وأحيانــا حتــى بعــد ذلــك) تهــدف إلــى إحــداث تأثيــر تكتيكــي وليـس لهـا أي وزن سياسـي. وهكـذا، فـإن عــدم الاتســاق، والتحريــف، والخــداع، وتقديــم مقترحــات غيــر نهائيــة، تدخــل جميعهــا ضمــن الممارســات التجاريــة المعروفـة، و تشـكل أي منهـا أهميـة مـا لــم ينــص عليهــا العقــد النهائــي. وعــادة مـا تصـدر تصريحـات اسـتفزازية لقيـاس رد فعـل الطـرف الاخـر. ويعتبـر التهديـد والوعيـد والانفعـال أدوات تكتيكية، وليسـت انحرافــات عــن السياســات والدبلوماســية. لـذا، مـن يأخـذ مـا يقولـه هـذا ً الرجل بشـكل حرفـي يرتكـب خطـأ كبيـرا. وهنــاك عبــارة مجازيــة بــدأت تنتشــر فــي الو يــات المتحــدة، وهــي أن أتبــاع ترامــب يأخــذون كلامــه بجديــة، ولكــن ليــس حرفيــاً، فــي حيــن أن منتقديــه ومعارضيـه يأخـذون كلامـه حرفيـاً، ولكـن ليــس بجديــة. وهنــاك شــيء مــن الحقيقــة فـي هـذا، فخـلال حملتـه الانتخابيـة، قـال ترامـب كلامـاً وفعـل أشـياء مـن المفتـرض أن تعصــف بمســتقبل أي مرشــح تقليــدي، فلقــد أظهــر ترامــب قــدرة رائعــة علــى التخلــي عــن التصريحــات التــي تثبــت أنهـاغيـر مناسـبة بشـكل يثيًـر فـي الغالـب اسـتغراب خصومـه، فضلا عـن مؤيديـه. وفـي حيـنأ نهـذه المرونـة تحّيـر الساسـة والدبلوماسـيين وتسـتفزهم، فـإن هـذا أمـرطبيعــي وعــادي بالنســبة لرجــل أعمــال. ترامــب لــن يكــون رئيســاً تقليديــاً، ولكـن مـن المتوقـع أن يهمـل (فـي أحسـن الاحـوال) ويـزدري (فـي أسـوأ ا حـوال) التقاليــد والاعــراف الخاصــة بالسياســية والدبلوماســية، وهــذا يقودنــا إلــى القاعــدة الاساســية الثانيــة.
ثانيًا:ازدراء التقاليد السياسية مــن الواضــح أن ترامــب ليــس عضــواً فـي المؤسسـة السياسـية الامريكيـة، وهـذه مـن الامـور التـي تـروق لناخبيـه. ولهـذه الحقيقـة تداعيـات علـى السياسـات أكثر من مجـرد تداعياتهـا علـى الحملـة الانتخابيـة، ولعــل أهمهــا أن ترامــب يديــن بالــولاء أو الاذعـان للتقاليـد السياسـية التـي تتبعهـا واشـنطن. هنــاك عــدد مــن التقاليــد المتعلقــة بالسياسـات التـي تتبناهـا الولايـات المتحـدة وأيدهـا جميـع الرؤسـاء فـي الفتـرة الاخيرة وتشـمل الالتـزام بالتجـارة الحـرة العالميـة، والاعتمــاد علــى الحلفــاء والتحالفــات فــي الشـؤون الامنيـة، والتـزام عـام بالنهـوض بحقـوق الانسـان فـي جميـع أنحـاء العالـم.
إذن، كيـــف ســـيحكم ترامـــب؟ الاجابـــة الموجـزة هـي أن أحـد لا يعـرف بالتأكيـد، و حتـى الرئيـس المنتخـب نفسـه. لكـن متطلبـــات الرئاســـة كثـــير ة، والإدراة أكثر تقييدأمن الحملات الإنتخابية
وكــون ترامــب يمثــل جــزءاً مــن التقليــد السياســي الامريكــي، يجعلــه غيــر ملـزم بالتقيـد بهـذه العقيـدة. وفـي الواقـع، عـارض ترامـب أجـزاء مـن هـذه التقاليـد التــي يشــعر أنهــا لا تصــب فــي صالــح المواطــن الامريكــي العــادي، كمــا أثــار شــكوكاً حــول التــزام الولايــات المتحــدة بحلـف شـمال الاطلسـي، وعلـى الرغـم من أن هــذا الامــر لــم يســبق لــه مثيــل، فإنــه ربمــا يكــون مــن الافضــل النظــر إليــه كتكتيـك تفاوضـي لتحفيـز الـدول الاوروبية لدفــع نصيبهــا مــن تكاليــف الدفــاع. يأتــي ترامــب إلــى منصبــه ببرنامــج معــارض للحكومــة الامريكيــة، التــي ذكــر أنهــا انصرفــت بفعــل البيروقراطيــة والادارات السـابقةإلـى تعزيـز مصالحهـا الخاصــة، بــدلا مــن مصالــح الدولــة، ويـرى أن الحـل هـو "تجفيـف المسـتنقع"، فهـو يسـتبعد قـدرة الحكومـة علـى كشـف الارهابييــن المحتمليــن فــي صفــوف اللاجئيــن، ومنــع المجرميــن مــن دخــول البلاد بصورة غير شرعية من المكسيك او ادارة البرامج التنموية بكفاءة
ثالثًا:توجهاته حيال الشرق الأوسط لــم يتبــن ترامــب فــي حملتــه الانتخابيــة برنامجـاً للسياسـة الخارجيـة، وفـي الواقـع، اعتبـرت هـذه نقطة قـوة لهيـلاري كلينتون. وبمــا أن الشــأن المحلــي يغلــب علــى برنامجــه فيجــدر بالمراقبيــن فــي الشــرق الاوســط رؤيــة سياســته الخارجيــة مــن وجهــة النظــر المحليــة. وهنـاك ثلاثـة محاذير ينبغـي أن توضع فـي الاعتبـار مـع الادارة الجديـدة. التحذيـر الاول هـو عـدم الافـراط فـي التدقيـق فـي خطــاب حملتــه الانتخابيــة أو الكتابــات السـابقة لكبـار مستشـاريه؛ فالماضـي ليـس دائمـاً مقدمـة لمـا سـيأتي، خاصـة مـع هـذه الحملـة، وهـذا المرشـح. الامـر الثانـي أنـه ينبغـي أخـذ المصالـح الامريكيــة المحليــة فــي الاعتبــار عنــد النظــر فــي أي مقتــرح يتعلــق بالسياســة الخارجيــة. فتصريــح ترامــب بأنــه يجــب علـى الحلفـاء زيـادة المسـاهمة فـي الدفـاع عـن أنفسـهم ليـس مقترحـاً راديكاليـاً، بـل الاشـارة إلـى أنـه سينسـحب مـن الترتيبـات الامنيـة القائمـة منـذ فتـرة طويلـة هـي التـي تمثــل مقترحــاً راديكاليــاً. وجهــة النظــر هــذه رائجــة فعــ ًلا، فمعظــم الامريكييــن يدركــون المســاهمات التــي يقدمهــا شـركاؤهم فـي مجـال الدفـاع للحفـاظ علـى الوجــود الامريكــي فــي الخــارج. الامــر الثالــث هــو بينمــا يشــعر ا مريكيـون والعديـد مـن أنصـار ترامـب بـأن الو يـات المتحـدة تقـوم بمهـام أكثـر ممــا ينبغــي فــي الخــارج، فإنهــم وبشــكل يثيــر المفارقــة يريــدون أن تكــون دولتهــم قويـة فـي الخـارج وتتصـدى للاعـداء مثـل "داعـش" وإيـران. ومـن ثـم فمـن المتوقـع أن يبتعــد ترامــب عــن النهــج التصالحــي الــذي يتبنــاه أوبامــا تجــاه إيــران، وأن ُيصّعـد (بشـكل رمـزي علـى الاقـل) القتـال ضــد "داعــش". ومهمـا يحـدث، فـإن الظـروف مواتيـة لرئاسـة مغايـرة عـن أي مـن سـابقاتها التـي خبرناهـا فـي حياتنـا. نصيحـة: "اربطـوا أحزمـة الامـان لان الرحلـة سـتكون مليئـة بالمطبات".
المصدر