“التسوّل” السوري


سلام الكواكبي

ربما تُعدّ “مهنة” التسوّل من أقدم مهن الإنسانية إلى جانب بيع المتعة الجسدية، وقد عرفتها ثقافات العالم كافة، على العلى الرغم من من نسبية انتشارها وارتباطها بالمستوى الاقتصادي للمجتمعات، كل على حدة. وربما -أيضًا- من المفيد أن نعترف بأن التسوّل ليس محصورًا في العملية التي تقتصر على مد اليد في مكان عام لطلب القطعة النقدية فحسب، بل يمكن عدّ التسوّل الأهم هو ما يمارسه أناسٌ “عاديون” بلباس عادي وشكل عادي، ويتسوّلون خدمة أو تجاوزًا أو منفعةً، وهو ما انتشر، خصوصًا في بعض الثقافات التي خضعت لسنوات من الاستبداد وتوزيع المنافع والخدمات بحسب الولاءات. وقد تأسست ثقافة عريقة في هذا الاتجاه في كثير من الدول العربية وسواها، يسعى معتنقوها إلى الحصول على خدمة عينية أو منفعة مادية متسوّلين عطاءات ومكرمات من هم في مركز القرار الاقتصادي أو السياسي أو الأمني أو الديني. وصار مسوغًا التسوّل بهذه الطريقة “الشيك”، بعيدًا عن المظهر غير الحضاري للمتسوّل التقليدي.

كما تطوّرت في ثقافات القمع والخضوع له، سياسات تسوّل واضحة، بحيث أنها انتقلت إلى الأداء الحكومي كما إلى أداء الأحزاب المرضي عنها، وذلك؛ للحصول على مقعد وزير أو لوحة إدخال موقت لسيارة أو توظيف لابن أو ابنة. فالتسوّل -هنا- صار جزءًا لا يتجزأ من الهيكلية الإفسادية المنظمة.

وفي السياسة الخارجية، تطوّرت ثقافة التسوّل ـ أنظمة ومعارضات ـ فأضحت هي القاعدة بتنازلٍ واضح عن كل مفهومات السيادة أو الكرامة. فبات من المألوف أن يتسوّل نظام ضعيف المشروعية في بلده؛ دعمًا من قوى خارجية إقليمية أو دولية؛ لكي يُحافظ على موقعه المهيمن على حيوات المستعبدين. واقتصاديًا يتسوّل من أفقر بلاده على حساب اغتنائه الفردي أو العائلي، دعمًا من جهات خارجية ستشرطه بالانتقاص من سيادة البلاد حكامًا وعبادًا. وصار من شبه المحمود أن تتسوّل “معارضة” ركيكة موقفًا أو دخلًا أو دعمًا من مانحٍ خارجيٍ سيفرض عليها -شاءت أم أبت- برنامجه؟

أما تسوّل الأفراد، فمن المنطقي عدّه من أهون “الشرور”، وهو ظاهرة اجتماعية/ اقتصادية يمكن أن تنمو في كل المجتمعات. وكما كل مهنة غير منظمة، فقد أتاح فضاء التسوّل لمجموعات غير قانونية القيام بتنظيمه والإشراف عليه والاستفادة من عائداته بحسب الموسم وحسب النقطة الجغرافية. وليس بجديد، وليس اكتشافًا للعجلة، القول بأن هناك عصابات تستغل مأساة بعض الفقراء وتسيطر على حركتهم وتوزّعهم. حيث يظهر ذلك أساسًا في الدول التي يغيب فيها القانون ويضعف فيها دور المجتمع المدني، ولكنه يظهر أيضًا في الدول المتقدمة ويصعب على السلطات الشُرَطيّة أن تُميّز بين التسوّل الفردي وذاك المنظّم، فما بالنا بأن يتمكن فردٌ أو مجموعة من أصحاب النيات الطيبة بالتوصل إلى نتائج جديرة بتحقيقات شارلوك هولمز، والحسم بوقوف العصابات وراء كل فعل تسوّل.

في أوساط اللجوء السوري، خصوصًا في دول الجوار، تنتشر ظاهرة التسوّل، كما كانت قائمة في بلد المنشأ، ولكن بصور أكثر درامية؛ استنادًا إلى كارثة اللجوء التي حلّت بالناس في إثر وقوعهم ضحايا للمقتلة السورية. وصار الموقف من التسوّل والمتسولين مصدر شد وجذب بين من يتابع شؤون السوريين في هذه البلدان. فمنهم من يعدّ انتشارهم طبيعيًا وانعكاسًا متوقعًا لمأساة أكبر، ومنهم الآخر من يشمئز من “دناءة نفس” بعض الذين تدفعهم تلك الدناءة إلى تفضيل التسول على العمل. وهؤلاء، أي: صنف المشمئزين، يعتقد، وغالبًا ما يكون على خطأ، بأن فرص العمل قد فتحت أذرعها واسعة للجميع، ووجدت منهم من هو ناكرٌ للجميل والمُفَضّل للذلّ والهوان من خلال التسوّل. ويعلّل بعضهم هذا التفضيل، وربما عن حقٍ جزئيٍ، بأن بعضهم يفضّل الكسل التسوّلي على العمل.

بحرٌ واسعٌ من التسويغات ومن التعريفات ومن التوصيفات للتسوّل، بوصفه نفسية جماعية أو ممارسة فردية تحتاج لبحوث واسعة ومعمّقة في العلوم الاجتماعية، ليس بمقدور الغيّورين على سمعة بلدهم أن يجزموا فيها.

في فرنسا، تنتشر في بعض المدن الكبرى ظاهرة تسوّل بعض اللاجئين السوريين غير المسجلين ممن تقطّعت بهم السبل، على الرغم من وجود الجمعيات المدنية القادرة على مساعدتهم، ولكن جهلهم أو خوفهم أو فقدانهم الأوراق الرسمية أدى بهم إلى ناصيات الشوارع وممرات المحطات ينادون بالمساعدة مشيرين غالبًا إلى أنهم سوريون، بما انهم لمسوا تعاطفًا مجتمعيًا، أو خُيّل لهم ذلك. وقليل منهم ليسوا بسوريين، محاولين الاستفادة من موجة التعاطف هذه. في بردٍ قارسٍ، لا يلجأ المرء إلى هذه المهنة تحببًا أو تسليًا أو ترفًا. هم أناسٌ محتاجون مهما تعددت وتعقّدت الأسباب. والقول بأن “السوري مو شحاذ” كما تُعنون نفسها حملة مجموعة من الناشطين السوريين في الفضاء الافتراضي، فيه تعميم غير مجدٍ. والتعميم الانتمائي سبق له أن استُخدم في إثر العمليات الإرهابية في أوروبا؛ إذ خرج بعض المسلمين ليقول إن “المسلمين بريؤون من الإرهاب”. أو القول بأن “الغجر ليسوا بسارقين”. وهو مسيء إلى المجموعة نفسها؛ لأنه في سعيه لنفي الاتهام، فهو يرسخّه.

في كل المجموعات البشرية هناك متسولون وسارقون وغاصبون ومغتصبون وأنبياء ومعلمون وخياطون ومستبدون… إلخ. لا يُحبّذ استثناء مجموعة بشرية ما عن الطبيعة. إن عدّ السوريين ليسوا بمتسوّلين هو صرخة ألم، ولكنها لا تعكس واقعًا تجدر مواجهته بالعمل وليس بالقول. الاهتمام بالمتسولين، إن وجد أصحاب النيات الطيبة الوقت، هو أجدى من توجيه إصبع الاتهام إليهم، مهما كان هذا الاتهام مستندًا إلى مشاهدات ومحكيات. المسؤولية الاجتماعية التي افتقدناها في ممارساتنا، ليمكن أن نكتسبها من خلال اندماجنا في المجتمعات التي طوّرتها.

في شوارع بيروت المظلمة، اعترضني يومًا ماسح أحذية سوري عارضًا خدمته، فاعتذرت منه لعجلة في أمري، فتابع مستجديًا مبلغًا يمكنه من إطعام أهله ليلتها، فنقدته مبلغًا وتابعت مسيري. بعد شهرٍ من الحدث، وفي شارعٍ قريب، اعترضني الشاب نفسه، وقال مبتسمًا بأنّ لي عنده عشرات الفرص لمسح أحذيتي، فاستغربت كلامه، فتابع قائلًا: يبدو أنك، وبسبب العتمة، قد نقدتني يومئذ عشرة أضعاف المبلغ الذي كنت تود أن تعطيني إياه. ضحكنا معًا، وتابعت مسيري متأملًا في موقف “المتسوّل” الذي علمني الكثير.




المصدر