الطريق إلى آستانا


طريف الخياط

سيباشر المشاركون في مفاوضات آستانا -قريبًا- استعداداتهم للسفر، وحقائبهم تكاد تخلو من الملفات والأجندات؛ فقد وضبها لهم الأتراك على عجل. يرمي الروس بعض الحلوى على الطاولة، فللمدعوين رأي في دستور جديد، وما سيكون عليه حال المرحلة الانتقالية، دون مطالب جوهرية قد بعثرتها رياح من صقيع موسكو. ستلتئم الوفود، وما يقارب نصف الشعب السوري مشرد بين نازح ولاجئ، مدنه مدمرة ولم يبق لدمشق العطشى لا هواء ولا ماء ولا فاكهة ولا حمامات كي تفخر بها، وحتى مسجدها الأموي يراد له أن يصير إيراني الهوى. لم تعد سورية بلد السوريين.

لم يكن هناك من خيار، فإما أن تُشارك الفصائل أو تفرغ جعبها من الذخائر. لقد أظهرت أنقرة حزمًا مع المعارضة لتغازل موسكو على حساب طهران، وقدمت لبوتين هدية طالما رغبها بمنحه فرصة الإسهام في تشكيل وفد المعارضة، وذلك بعد أن قبلت روسيا بالجلوس مع المعارضة العسكرية على طاولة واحدة.

تُلحّ على خاطر المرء في هذا السياق أسئلة تفرضها سيناريوهات محتملة، فمفاوضات آستانا تهدف، بحسب ما يعلن جميع الأطراف، إلى تثبيت وقف لإطلاق النار، يعدّ النظام وحلفاؤه أنه لن يشمل جبهة فتح الشام وداعش. ماذا لو أُضعفت فعلًا الجبهة الإرهابية، واستقدم النظام مزيدًا من المرتزقة العراقيين والأفغان والإيرانيين لهزيمة المعارضة، هل ستكون سورية -حينئذ- مرتعًا لإرهاب موال، ممثلًا بالميليشيات الشيعية وحزب الله؟ سيناريو كهذا يفسر الإصرار التركي -في هذا الوقت خصوصًا- على ربط محاربة الإرهاب بخروج تلك الميليشيات من سورية، وهو موقف يلقى قبولًا روسيًا، وربما -أيضًا- من الإدارة الأميركية المقبلة؛ إذ يفيد خطاب المرشحين لوزارتي الخارجية والدفاع بأن التقارب مع موسكو لن يكون لصالح إيران. يفسر ذلك تحفظ الأخيرة على الدعوة التي وجهت إلى واشنطن لحضور المفاوضات، ويدفعها إلى مزيد من التشدد في مواقفها الداعمة للنظام؛ بهدف تقويض الاتفاق.

تدور في الذهن -أيضًا- أسئلة عن حقيقة موقف أحرار الشام، فقد رفضت الحركة المشاركة في آستانا متذرعة بعدم تحقق وقف فعلي لإطلاق النار، لكنها في الوقت نفسه منحت تأييدها للفصائل المشاركة. بادرة توحي بأن الأحرار ترغب في التريث، فهي لم تتخذ موقفًا من المشاركين، وفضلت في الوقت نفسه الانتظار ريثما تتمخض اللقاءات عن نتيجة ما. ماذا لو نتج -إذن- عن مفاوضات آستانا تثبيت فعلي لوقف إطلاق النار؟ يبدو أن الحركة في مأزق فعلي، وسط تقارير تفيد عن صدع داخلي يميز بين متشددين يسعون إلى انخراط أكبر مع فتح الشام، وبراغماتيين هم أقرب إلى موقف الفصائل الأخرى. بمعنى آخر، فإن الحركة تخشى انقسامًا في صفوفها في حال تم تثبيت الهدنة، في خطوة سيعقبها تزايد الضغوط التركية للانضمام إلى الجهد الذي ترعاه الأخيرة بالتنسيق مع الروس.

ماذا -أيضًا- لو فشلت المفاوضات؟ فكما أن الهدنة مهمة لروسيا لأسباب تناولناها في مقالات سابقة في هذا المنبر، فإن تركيا تطمح للإفادة منها في تخفيض التوتر مع الولايات المتحدة مراهنة على ما تعتبره أنقرة إشارات إيجابية ترسلها الإدارة الجديدة. إن استقرارًا نسبيًا في سورية وتقاربًا مع الروس، يزيد من أوراق أنقرة في أي تفاهمات مقبلة مع الأميركان تتناول دعم واشنطن لقوات سورية الديمقراطية والتي يشكل الأكراد عمودها الفقري. لا يبدو ضمن هذا السياق أن تركيا في معرض التفريط بعلاقتها مع الروس، ومن ثم؛ الاستمرار في دعم المعارضة بالشكل الذي كانت عليه الحال سابقًا. من جهة أخرى، لم يخف الأسد، ومن خلفه إيران، أن الهدف من مفاوضات آستانا هو انضمام “المجموعات الإرهابية” إلى مفاوضات القصف والتجويع والاستسلام كتلك التي استطاع مؤخرًا فرضها بدعم من حلفائه في حلب ومحيط دمشق، أي استمرار الحرب طالما وجد النظام دعما بالمقاتلين والسلاح والعتاد من حلفائه أو بعضهم على الأقل.

إن الطريق إلى آستانا معبد بالأشواك ومفخخ بالألغام، فهي إن كان لها أن تتمكن من تثبيت الهدنة لن تلغي الخطر القائم من انهيارها بعد أن تمنح النظام استراحة محارب، والأمر حينها مرتهن بقدرة المعارضة العسكرية على تجاوز انقساماتها ورغبة الداعمين وعلى رأسهم تركيا بتدعيم وتحسين ترسانتها العسكرية. لن يتمخض فشل المفاوضات، من زاوية أخرى، عن استعادة الزخم السابق للثورة عسكريًا في المدى المنظور، فتركيا، كما أسلفنا، فقدت شهيتها لتصعيد يوتر علاقتها بروسيا التي لن تتخلى عنها إلا بالتزام من واشنطن لم تقدمه الإدارة السابقة، ولا يبدو أن ترامب متحمس لمغامرة شرق أوسطية جديدة.

ستقلع الطائرات إلى آستانا، ولعلها تمنح وفد المعارضة فرصة لرؤية سورية من فوق، سورية التي دمرها الأسد، والملتهبة بجراح جميع مواطنيها، فيدركون أن انقساماتهم وخطابهم المؤدلج المضطرب، وخلل استراتيجياتهم كانت وبالًا على شعب صرخ مطالبًا بالحرية، ولم يجد من مجيب.




المصدر