دعوى الإعجاز العلمي في القرآن: تزلّف المتأخر للمتقدم


مناف الحمد

لا شكّ في أن ما سنقوله يمكن أن يمثل صدمة لمن استشعر دفء اليقين من خلال ما سمعه من زغلول نجار، وعبد المجيد الزنداني، وأمثالهما ممن كرّسوا دعوى الإعجاز العلمي في القرآن، وهي دعوى وجدت مؤسسات، ودولًا تعقد لها المؤتمرات، والهيئات، وتثبّت لها قدمًا راسخة بين علوم تفسير القرآن.

ونحن إذ نجزم أن دافع هذه الدعوى هو النقص الذي يستشعره المتأخر تجاه من سبقه حضاريًا، فإننا لا نأتي بجديد لم نسبق إليه، فلقد كان ديدن كثير من العلماء الكلاسيكيين الذين تلقينا العلم على أيديهم هو استنكار جرّ القرآن إلى العلوم الحديثة، والاكتفاء بالتفسيرات التي أقرّها المفسرون القدامى لآيات القرآن التي تحتوي إشارات إلى ظواهر كونية.

ونحن لا ننفي وجود إشارات في القرآن لحقائق علمية مكتشفة حديثًا، ولكننا نسوق اعتراضنا للتنبيه على خطرين أساسيين، تنطوي عليهما هذه الدعوى، وهما خطران ربما يغفل عنهما روّاد الإعجاز العلمي في القرآن، فما بالك بأنصارهم والعوام الباحثين عن أدلة تثبت المصدر الإلهي للنص.

الخطر الأول: ادّعاء إمكان اشتقاق معرفة علمية من الخطاب الديني، وهو ادعاء فاسد؛ لأن المعرفة العلمية تفكير نسقيّ حول الواقع، ومعنى كونها تفكيرًا نسقيًا حول الواقع أنها تتضمن ربطًا للأسباب بالمسببات، و تفسيرًا لمعلومات يُشتقّ فيها الجزئيّ من الكليّ، والكليّ مما هو فوقه، وصولًا إلى النظرية العلمية، وهي نظرية تظلّ قابلة للتفنيد على حد تعبير (كارل بوبر)، شيخ فلاسفة العلم في القرن العشرين، وقابليتها للتفنيد معيار علميتها، أما الإشارات التي يمكن العثور عليها في النصّ القرآني، فليست تفكيرًا مشتقًا (كالمعرفة العلمية) للجزئيّ من الكليّ، وللأخير مما هو أعلى منه، ولا تتضمن تفسيرات للمعلومات، ولا ربطًا للأسباب بالمسببات.

وما دامت قابلية التفنيد رائز علمية المعرفة العلمية، مهما بلغت درجة اليقين بها في مرحلة معينة، فإن ادعاء اشتقاق الأخيرة من النصّ تعرّضه لخطر التفنيد، وهذا الخطر لازم عن هذا الادعاء لزومًا منطقيًا.

الخطر الثاني هو أن الشّعب الذي سلكه القائلون بالإعجاز العلمي في القرآن يفترض أن العلم الطبيعي هو الحقيقة، وأن ما عثروا عليه في النصّ هو باطن له مطابق لهذه الحقيقة.

وهو الطريق نفسه الذي سلكته الفرق الباطنية المغالية في التاريخ الإسلامي، عندما جعلت من المقولات الفلسفية السائدة آنذاك باطنًا للنص، ففرضت عليه ما لا يحتمله مسبّقًا في انحراف عن المنهج الواجب اتباعه الذي يقضي بضرورة الوصول إلى النتائج بعد استفراغ الجهد في البحث، وليس قبل ذلك.

كما يلزم عن البحث عن علوم جزئية في القرآن تشويه للمبدأ الذي يقوم عليه الدين، وهو مبدأ الخلق الذي يتضمن معاني رمزية لا تقبل التفسير بالقوانين الطبيعية، وتبيان ذلك أن العالم في علوم الطبيعة، إذ يبحث عن علل الظواهر، وتفاعلاتها، إنما يتوقف في بحثه قبل الوصول إلى سؤال أصل الوجود؛ لأنه يفترض أن هذه التفاعلات لا تحتاج إلى تفسيرات فوق طبيعية، ولا إلى تدخلات قوة غيبية، ولولا هذا الافتراض لما تمكن من بناء نسقه.

فإذا ما طبقنا منظوره على النصّ المقدس، لم يعد ثمة حاجة لفرضية الخلق أصلًا.

هذان الخطران، وما يستلزمانه يقلبان ظهر المجنّ على رواد الإعجاز العلمي؛ لأنهما يجعلان من دعواهم أداة لفتح النص على إمكان التفنيد بدالة إمكانية تفنيد ما ضمّنوه فيه من حقائق علمية هي قابلة لذلك بحكم ماهيتها، ولابتذاله بانتهاج منهج الباطنية التي ابتذلت النصّ، وجعلته وعاءً يقبل كلّ ما يُفرض عليه من حقائق فلسفية، ولم تجتهد في تفسيره وفق منطقه، ولجعل مبدأ الخلق عبثًا بتشبيك النص مع مناهج علوم الطبيعة التي لا تحتاج إلى هذا المبدأ.




المصدر