جوهر الكراهية وأسبابها…!


محمود الوهب

كتب أحدهم في مكان ما: “إن العلمانيين واليساريين السابقين يتحوَّلون، هذه الأيام، إلى ليبراليين، لكنَّهم يظلُّون على كرههم للإسلام، بل إنهم يزدادون كرهًا له…!”

ما إن تتشخصن أي مسألة حتى تُسَفَّه. وتمكن الإشارة هنا إلى أن كثيرين من أبناء الإخوان المسلمين في سورية، وأقربائهم، وأصدقائهم، كانوا أيَّام ملاحقة النظام الديكتاتوري لهم، أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، يجدون في الأحزاب اليسارية والعلمانية عمومًا ملجأ لهم، وهذه الحال، فيما أرى، نزعة إنسانية، لا تصنَّف تحت بند الانتهازية أو التذبذب! بل إنَّ الصدمات العميقة غالبًا ما تُجري تحوُّلًا نوعيًا في تفكير الإنسان، كما أنَّ حبَّ الإنسان للحياة يدفعه للبحث عن الأمن والابتعاد عن المخاطر، وبخاصة إذا كانت سجنًا أمرَّ من الموت، أو قتلًا على الشبهة، ومثل هذا الأمر حدث لثلث الشعب السوري الذي فَرَضَ عليه النظام المستبد، بالحرب التي أشعلها، الهجرة من وطنه! ولعلَّ الأمر نفسه ينطبق على اليساريين، الذين كانوا يرون في الاتحاد السوفياتي ملهمًا فكريًا ورائدًا سياسيًا، لكنهم حين سقوطه المفجع شعر بعضهم باليتم، فانتبهوا، بالعيِّنات المادية، إلى أنَّ فقدان الحرية هو السبب في سقوطه، فراحوا يلهثون خلفها، تمامًا كما انتبه بعضهم الآخر إلى أن أسباب هزائم بلدانهم، على غير صعيد، إنما يكمن في سطوة أنظمة الاستبداد التي منحها اليساريون الثقة، فضاعف هذا الأمر من سعي الفريقين لتلمس أسباب الحرية.. ذلك إذا لم ندخل إلى جوهر فلسفة الحرية، وملازمتها للفكر اليساري عمومًا، قبل أن تغيبها تنظيمات اليسار الحزبية!

هل تكرهُ الفكرةُ بحدِّ ذاتها؟ بل هل يكرَهُ الإنسانُ إنسانًا آخر لفكرة اعتنقها؟! أم إن تجليات الفكرة التي يعتنقها هذا الفرد أو ذاك، هذه الجماعة أو تلك، وانعكاسها، في الممارسة العملية، سلبًا أو إيجابًا على الوسط المحيط، هو ما يحدد مواقف الناس وردود أفعالهم تجاهها حبًا أو كرهًا؟!

لكلٍّ منا أمثلة عن أفراد وأسر وقبائل ومجتمعات بعضها يختلف عن بعض، في الدين والطائفة والمعتقد عمومًا، وكذلك في العرق أو القومية.. وعلى الرغم من ذلك تعايش هؤلاء بعضهم مع بعض بأمن وسلام وتعاون بنَّاء مثمر. وعلى العكس أيضًا نجد أمثلة كثيرة عن معارك ضارية جرت بين أبناء الدين الواحد أو المذهب الواحد أو القومية الواحدة.. بل الحزب الواحد والهدف الواحد…!

صحيح أن ثمة أفكارًا أو إيديولوجيات ترتبط بمصالح معينة لطبقة اجتماعية ما أو لفئة ما، قد تتعارض مع أفكار فئة أو شرائح اجتماعية أخرى تأتي مصالحها على النقيض من الأولى فتتولد الحساسيات، وربما الكراهية، ويغيب العقل والحكمة، ليحل مكانهما مبدأ القوة والسيطرة، وحينها يبدأ التجييش من الأقربين في الدين والعشيرة والملة وما إلى ذلك.. وعندئذ تطمس الحقائق التي يراد لها ذلك.. وغالبًا ما تحدث مثل هذه الأمور في القضايا الحياتية المادية المرتبطة بعيش الإنسان، وبممتلكاته الخاصة التي تنعكس إيجابًا على مستوى عيشه. ما يعني بإيجاز المساس بمصلحته، فالناس تتصارع حول مصالحها، بحسب ماركس، وكلما اتسع حجم المصلحة، اشتد الصراع واحتدم!

أما حين يتعلق الأمر بالدين، بالجانب الروحي الخاص جدًا بالإنسان الفرد، فالأمر مختلف، فالإنسان الذي لم يختر دينه أصلًا، فكيف يقف في وجه دين آخر، أو يقاومه، وخصوصًا أن الجميع يُقر بفكرة الله الواحد، يؤكد ذلك المثل السائد بين عامة الناس:” كلٌّ على دينه، الله يعينه”…!

للأمر هنا علاقة بتسييس الدين، وبتحويله إلى إيديولوجيا يتبناها هذا الحزب أو ذاك ويفصّلها بحسب مصالحه! وهنا يبدأ الاختلاف مع الآخر.. فليست الفكرة ما تكره، بل الفكرة المؤدلجة، وليس الإسلام كدين بل إنه “الإسلام السياسي”، فلا كراهية للإسلام، بل موقف من الإسلام السياسي. هو موقف من نماذج محددة أوجدتها إرادة من يدير الصراعات الدولية، وحملتها حالة التخلف الشامل في البلدان العربية والإسلامية، كتنظيم القاعدة وما تفرع عنه، إذ لا تزال تعتقد هذه الجماعات أن عصر الثورة المعلوماتية والقنابل الفراغية هو نفسه عصر الجمل والسيف…!

يعود انتشار الإسلام داخلًا وخارجًا، وبغض النظر عن شكل انتشاره، بسرعة قياسية، إلى الحاجة الموضوعية التي تطلبتها تلك المرحلة من أفكار جديدة، تخدم مستوى التطور الذي وصلت إليه شبه الجزيرة العربية، وقد أتى بها الإسلام لتخدم مجتمعًا إنسانيًا يعيش أوضاعًا محددة، هي أوضاع الانتقال إلى المجتمع الزراعي، وتلبية حاجاته المادية والروحية، وقد ثبت الإسلام أفكارًا وألغى أخرى، وفقًا لقوانين التطور الموضوعي في الحياة…!

تدخل المسألة كلها في إطار القديم والجديد، وتتعلق بتفاعل الأفكار مع الواقع، تتعلق بالقول المأثور: “لكل زمان دولة ورجال”، نعم؛ إنَّ لكل زمان أفكاره، ولكل مكان، بل لكل أحوال وأوضاع، ولكل علاقات اجتماعية معينة، مفكروها وفلاسفتها، وإنَّ الأفكار مثل أي كائن حي تولد وتنمو، وتفعل فعلها في الحياة ثم تتخلى عن موقعها لغيرها، وإن ظلت في ذاكرة الحياة والإنسان.. هكذا هي عبر التاريخ؛ سواء كانت دينية أم فلسفية، أو أيَّ أفكار أخرى نتجت عبر مسيرة الإنسان التاريخية، وعبر نموه، جسدًا وروحًا، عقلًا ووعيًا.

ما الذي أضافته بعض التنظيمات الإسلامية إلى الحياة الجديدة التي يحكمها اليوم تطور مذهل وتقنيات لا يكاد عقل الإنسان في عالمنا العربي والإسلامي المتخلفين أن يدركها.. إن مثل هذه التنظيمات لم تضف لحياتنا غير أحقاد على الآخر وكراهية له، أحقاد وكراهية ناجمين عن عدم قدرة على التلاؤم مع شكل الحياة وروحها.. الحياة النامية المتجددة على مداها…!




المصدر