ترامب فاصلة في تاريخ أميركا وحسب!


توفيق الحلاق

هكذا وصفه باراك أوباما دون أن يأتي على ذكر اسمه، بعد وقت لا يتعدى الساعة من مغادرته البيت الأبيض إلى الأبد، وبعدما استمع مع ملياري إنسان حول العالم لخطاب ترامب الأول بوصفه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية.

كان أهم ما جاء في خطاب دونالد ترامب تلك الجُمل الاستفزازية: “تذكروا أن هذا اليوم العشرين من شهر كانون الثاني/ يناير 2017، هو يوم فارق في حياة أميركا!” وقوله للشعب الأميركي: “لن يجري إهمالكم مرة أخرى، وسنكون معًا؛ لنجعل من الولايات المتحدة دولة قوية وغنية وفخورة وآمنة وعظيمة مرة أخرى”.. هكذا.. وكأن مصباح علاء الدين بين يديه، وهو من سيُطلق مارد أميركا الذي حبسه أوباما وكل الرؤساء الأربعة والأربعين الذين سبقوه، فيما قال أبوما: “إنني وغيري مجرد فواصل في تاريخ أمتنا العظيمة، وليس هناك من نقطة يليها سطر يبدأ به تاريخ جديد لأميركا”.

في صيف عام 1998 كنت في زيارة لواشنطن، سألت مضيفي: ماذا تعمل؟ أجاب: أعمل في شركة للبرمجيات الإلكترونية مقابل 9 آلاف دولار شهريًا، لكنني سأتركها إن لم ترفع المبلغ إلى 12 ألفًا، فلديَّ مثل هذا العرض من ثلاث شركات أخرى. كان ذلك في عهد بيل كلينتون. في عهد جورج دبليو بوش، انحدر اقتصاد أميركا إلى الحضيض، ووصلت معدلات البطالة إلى حدود غير مسبوقة، لتعود إلى التناقص التدريجي في عهد أوباما، وفي عهد الرئيس الواحد والثلاثين، هربرت هوفر، الذي حكم فترة الكساد الكبير بين عامي 1929 و1933، قال قبل رحيله عن البيت الأبيض: “طوبى للشباب؛ لأنهم يرثون الدَين العام”. وهكذا فإن جموع الأميركيين وخاصةً الشباب هم من يدفع دائمًا ثمن السياسات غير الصائبة لبعض رؤسائهم، أو أنهم يجنون البحبوبة والرغد بسبب السياسات الإيجابية لبعضهم الآخر، وفي الحالتين فإن أركان الدولة العظمى لا تنهار بوجود رئيس مُتهوّر، وآخر مُتعقّل، وإن كانت تهتز قليلًا، أو أنها تتمكن أكثر، وترامب قال مثل ذلك في خطاب القسم: “لقد اختارني الشعب الأميركي، ولذا؛ فإن السلطة بيدهم الآن، وليست انتقالًا بين حزبين، بقدر ما تعني إعادتها إلى الشعب مرةً أخرى، ليس مهمًا سيطرة حزب على السلطة، الأهم هو سيطرة الشعب على الحكومة، لأنه هو من يحكم الولايات المتحدة”. لكن تلك التعابير العاطفية الشعبوية لا تُمثّل الواقع الذي يعيشه الفرد الأميركي. إذ لا يمكن للأميركي ذو الدخل المتأرجح والمحدود أن يُعبّر عن غضبه أو حتى عن عدم ارتياحه من معاملة صاحب العمل؛ لأنه سيطرده ويستبدله خلال ساعات، فهناك دائمًا فائض في السوق من العاطلين الأكفياء الذين ينتظرون الفرصة وبأي ثمن، ثم إن الموظف الأميركي ممنوع عليه التدخل في السياسة داخل مكان عمله، وهو -من ثَمّ- يخشى أن يفقد عمله إن اعترض أو تظاهر، على رغم من وجود كل الضمانات القانونية التي تحمي حقه في التعبير، فليس هناك قانون يمنع صاحب العمل من تسريح عامل لا يناسبه، بل وليس هناك من حقوق تكفل لذلك العامل ألا يجد نفسه فجأة بلا مأوى. إذن؛ فكيف سيحكم الشعب الأميركي أميركا في غياب الضمان الاجتماعي؟ وما قيمة الحرية ودورها إن كان معظم الشعب الأميركي يلهث طوال الوقت لتحصيل معاشه، ثم ليوزعه أقساطًا للسكن والسيارة والضمان الصحي والجامعة، وما يتبقى لأكله وملبسه، وهو في الوقت ذاته تحت تهديد الفصل من عمله إن رفع عقيرته ذات مرة بالاحتجاج.

ما تحتاجه أميركا هو ما سبقتها إليه أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزلندا واليابان وغيرها، في ضمان الحد الأدنى للعامل في حال فقد وظيفته لأي سبب، لكن ليس في برنامج ترامب، ولم يكن في برنامج أي رئيس حكم أميركا مثل هذا الهدف، لأنه يتعارض كليًا مع مصالح الشركات العملاقة التي تُهيمن على الاقتصاد، ومن ثم؛ على السياسة من خلف المشهد الذي لا تظهر فيه، وإنما يظهر فيه الرئيس والحكومة ومجلسي الشيوخ والنواب.

لقد ناضل أوباما أكثر من خمس سنوات كي يُمرّر قانونًا متواضعًا للضمان الصحي (أوباما كير)؛ وليساعد بواسطته 30 مليونًا من الأميركيين الفقراء في الحصول على العلاج والدواء بسعر أقل، وليس دون مقابل. هذا مثال فاقع على قدرة الرئيس على التغيير، إذ يستطيع الرئيس الأميركي أن يلعب في الخارج طالما كانت هناك فرصة لتوفير المال على الخزينة مثل وعد أوباما بسحب جنود أميركا من العراق وأفغانستان، ويستطيع ترامب أن يهدد قادة الخليج العربي بأنهم إن لم يدفعوا تكاليف القواعد الأميركية التي تحميهم ضعف ما يدفعونه الآن، فإن أميركا ستتخلى عنهم، وهكذا؛ فإن ساكن البيت الأبيض كل أربع أو ثماني سنوات، يستطيع أن يرسم فاصلة بينه وبين من سبقه، لكنه بالتأكيد لن يبدأ من نقطة الصفر.




المصدر