الحديث الأخير


حسين جرود

صديقك يطلب منك أن تكتب عما حدث منذ يومين، وزميل دراستك يعترض على كلمة واحدة ثقيلة؛ مع أنك تحتاج ساعة من النهار، تتحدث فيها مع حجر، بعد 23 ساعة تقضيها نائمًا، أو هائمًا في الشوارع، أو متلقيًا سلبيًا للتكنولوجيا ومفرزاتها…

إذا تحدثت مع طفل يبدأ بالطلبات، وقد تسكت، ولا تجرؤ على تعليمه شيئًا، وتكتشف أنك لست مدرسة.

إذا تحدثت مع جارك، لا تعرف ما الذي يدفع الحديث إلى أمور مثل: الأغاني حرام، أو علامات الساعة. وتكتمل المأساة عندما يظهر حذاء مقلوب، هل تصحيح وضع الحذاء المقلوب واجب ديني، أم لأنه ينذر بالشؤم، حتى الآن لا أعرف هذه الجزئية.

عندما تتحدث مع قريب، يسألك عن مستقبلك، ويلومك على أخطائك. تكتشف -فجأة- أنك لم ترتكب جريمة قتل، ولأنك لا تريد أن تخيب أمله، تبحث عن صورتك في صفحة الحوادث. لكنه لن يعدم الوسيلة، سيعلق على أي شيء. على ذقنك غير المشذبة، موعد استيقاظك المتأخر، تأخرك عن مناسبة ما.

إذا كنت محاميًا، فأين القانون في زمن شريعة الغاب.

إذا كنت طبيبًا، فأين الأطباء الذين سافروا وتركوا، الناس في أحلك الأحوال؟ هل تقول له: أنا أمامك! قد يسعفك الحظ، ويطرق بابك في ساعة متأخرة.

إذا كنت مزارعًا، لن يرحمك أحد. إنه زمن التجار الفجار، زمن السفر والبحر، وأنت تحني قامتك على الأرض، وتترك الرياح والأمطار تتلاعب بك. يقول لك جارك: أزرعت قمحًا؟!! هذا يحتاج إلى مازوت كثير. ازرع كمونًا، أو عدسًا، بصلًا، فجلًا. المطر، هذه السنة، جيد. اذهب لتعزية جارك.

إذا تحدثت مع سياسي، فأنت (درويش على نياتك). ننصحك ألا تدلو بدلوك في الحديث، الذي “سيتشقلب” في كل لحظة، ويعود سنوات إلى الوراء ليشير إلى إحدى مآثره، التي قد لا تكون أكثر من جلسة عجفاء على أحد الأسطح في سهرة صيف، وقال فيها رأيًا سيذكره التاريخ؟!

إذا تحدثت مع مقاتل، المقاتلون هم أطيب الناس، ولكن المشكلة فيمن يتلاعب بهم، أنت أيضًا ستستغله، وتطلب منه توصيلة بسيارته غير المنمَّرة.

إذا تحدثت مع شبيح (دون أن نحدّد: يشبّح لمن) ننصحك ألا تتعب نفسك. وافقه في كل شيء، أو انسحب.

إذا تحدثت مع ناشط، عليك أن تحذر! فالخبرة الواقعية أمر لا يستهان به، وهو شخص حقيقي، حتى لو كان ما فعله مجرد حمله لافتة في بعض الأيام المشمسة. لكن الناشط يمكن أن يخمد، يمكن أن يصبح أي شيء آخر، سياسي، أو تاجر، أو مدمن خمور بائس؛ لذلك الناشطون المقتولون هم الأجمل، (جيفارا) مثلًا.

إذا تحدثت مع الفنان (لاحظ ألـ التعريف) إن كان عندك أولاد أخ صغار، لن تجد صعوبة في الأمر. عليك أن تداريه، وتدلعه مثلهم.

أمك تراك في الماضي دائمًا، كما كنت. أبوك يراك في المستقبل دائمًا، لكن كما يريد، وأخوك قد يقتلك، هكذا تقول القصة. عمك لا يتحدث عنك دون أن يقارنك بأولاده، وخالك خاب أمله منذ زمن بعيد، وجدتك تسألك كلما زرتها: أنت خالد أم وليد؟

عامل، وسافرت؟ لمن تركت البطالة؟ مهندس؟ ألا ترى كيف يسرقون العقول؟ نجار؟ لا عمل لك في زمن “التعفيش”. خباز؟ طيار؟ بائع؟ …

الناس يطلقون الأحكام في كل لحظة، ويعرفون كيف يخنقون بعضهم بشكل جيد، وبينما أنقل لكم هذه الأحكام العامة، يتحدث صديقي عن النظرة الجديدة إلى الكون التي ظهرت في القرن التاسع عشر، إنه يقرأ لكاتب واحد منذ سنوات، لماذا لا تقرأ أوديب؟

– نعم إنها نظرة، نظرة فقط، وكلما رأيت أكثر تلاحقك اللعنات.

– هذا ما حدث مع السوريين -أيضًا-، حيث تتبعهم لعنات فراعنة العالم بعد هدم الهيكل.

– لا تنس كم الفضائح التي ظهرت. لقد انكشف كل شيء.

– لا. نحن مفضوحون منذ زمن.

– عندما ترى كل شيء تتمنى لو أنك لم ترَ شيئًا.

– …

وتجنبت الحديث عما جرى منذ يومين، فالبث يأتي متقطعًا، والصوت يغدو ضعيفًا، إنه مختطف منذ سنتين، وكلها أحاديث قديمة، ولكنه كان الحديث الأخير.




المصدر