نهاياتنا المفتوحة


سعيد قاسم

ليس أصعب من الحديث عن النهايات! المشاهد الأخيرة في القصص المؤثرة أشبه باللحظات التي يعتلي فيها المحكوم بالإعدام المنصّة المخصّصة لتنفيذ الحكم، ليجد الحبل مشهدًا أخيرًا بينه وبين الحياة كلها، المحكوم بالإعدام قد لا يفكر في شيء بقدر ما يفكر بآلة القتل تلك، لأنّها تقف أمامه كمصارع يحاول رميه من شاهقٍ.

المشاهد الأخيرة في الاتفاق الذي جرى بين عدة دول، واقتضى إجلاء أهالي الأحياء الشرقية من حلب، كانت تحمل اختزالًا لحيوات كاملة، لأناس عاشوا هناك قبل آلاف السنوات من ولادتهم، فكان الرحيل عن ذلك الزمن كلّه ليس كمن وجد نفسه فجأة أمام هاوية فألقى بنفسه فيها، لأنّه محكوم عليه بإتمام الطريق فحسب، وإنما لأنّه ما كان لهم البقاء في مدينة قد لا تستطيع أن تحاكي قلوبهم وتاريخهم.

النهايات تكبر فينا جيلًا بعد جيل، تماما كهزائم الفيالق في الحروب، ولكن ثمة ما هو أصعب، فليس كلّ من فقد فردًا في عائلة، كالذي فقد حيّه الذي ترعرع فيه، الأصعب هو اختبار انهيار الوطن أمامكَ، فالوطن في جوهره هو الحيّ والعائلة، وذاكرة المكان التي تحملها معك كروح تعبّر عنك، وليس المدن الكبيرة المكتظة بالسيارات والشركات والعمارات الحديثة. الوطن هو كل شيء نحتفظ برابط طفولي معه.

لم يعبّر حدثٌ سوري عمّا قاساه الإنسان السوري، ممّا تعرض له من اقتلاع ونفي وجودي من المكان والذاكرة، كما عبّر حدث انسحاب أبناء الأحياء الشرقية لحلب في منتصف ديسمبر من العام 2016، وكانت الجمل التي كتبت على تلك الجدران المعطوبة أيقونات خلدت إحدى مشاهد نهايات روح المدينة. فيما كانت مشاهد قافلة المهجّرين، وهم يحملون معهم تفاصيل حياتهم اليومية خلال أيام التهجير انهيارًا إنسانيًا عامًا.

في فيلم “أستراليا”، تحمل أغلب مشاهد الفيلم ملامح المشاهد الأخيرة، كثيرًا ما تعتقد بأنّ الفيلم سينتهي الآن، ولكنّه يستمر إلى مشاهد أخرى لتُبهرك بقدرة المخرج على إثبات شعورك في لحظة النهاية مدة أطول، ولكن الإبهار لن يكون شعورك حين تكون تفصيلا في نهاية ما.

الشعور بنهاية الأشياء والأحداث رافقني كثيرًا خلال مراحل الثورة السورية والأزمات التي عاشها الشعب السوري لحين أصبح هذا الشعور شعورًا يوميًا يرافقني كالشعور بالعطش أو الجوع أو افتقاد الأحبة.

في ذلك اليوم شعرت بأنني أستطيع المشي مسافة أطول، بل شعرت بأنّ لدي القدرة لأعبر كلّ مسافة، ربما كان ذلك مقاومة شعورية لفكرة المرض والذهاب إلى مختبر لا يرتاده سوى العجائز، أنا الذي لم أكن أستطيع المشي سوى بضع مئات من الأمتار، ظللت أمشي أكثر من ساعتين في رواق المستشفى، جيئة وذهابًا، في انتظار الدخول إلى الغرفة التي سيجري فيها تعرية شراييني من أي شيء يغطيها، وهو ما يسمى بالتصوير الظليلي للشرايين.

طوال تلك الساعتين كنت أفكر بالحالة التي أصبحت عليها بعد آخر اتصال بيننا، أحرقت على عجل الريشتين اللتين كنتُ أحتفظ بهما، وتمنيت أن تعيشي حياة سعيدة، ولكن الانتظار كان كثيرا وشدة التفكير بك جعلني -في ما بعد- أتمنى حرق العمر كلّه لأجلكِ، حينها أصبح التمني شكلًا من أشكال استهلاك الحياة، كنتُ أسمع أصوات ضيق التنفس من الداخل، وكنت أتذكر نشيد “موطني”، وأتذكركِ وطنا سأفتقده دائما وأقول:

“موطني

الهناء والجمال

هل أراك

في علاك

تبلغ السماء”

ولكن مشهدًا آخر سرق الانتباه، أحد البيشمركة المصابين في صدره بطلقة أحد قنّاصة داعش، كان من معه من أخوته يتكلمون بالكردية إلى الدرجة التي تعتقد بأنهم حقًا من الأكراد، في حين أنه كان يناجي باللهجة العراقية “يمّا رح موت”.

كان من المفترض أن أدخل إلى غرفة المختبر، ولكن مجيء ذلك المصاب أرجأ دخولي إلى حين آخر، ولكن لم يستطيعوا ضبط البيشمركي المصاب فأخرجوه.

لم أتعجّل دخولي إلى غرفة المختبر التي دخلها أخوان؛ أحدهما يحمل جرة غاز والثاني يدفع عربة عليها سيدة مشلولة، دخلت تلك السيدة بينما كنتُ أهدئ مرافقي لئلا يغضب من عدم الاهتمام بي.

بعد حين آخر من التفكير بكِ جاء دوري، كان الدخول ذاك -بالنسبة إلي- هو فرصتي لأراكِ في دمي، لطالما اعتقدت بأنّك ترقدين في عروقي، ولكنّهم أدخلوا إبرة في عرق بيدي، ثم جعلوا محلولًا كيميائيًا ينفذ إلى جسدي، ثم قالت الممرضة “لا تتحرّك، ستشعر بحرارة في جسدك، لا تخف”.

أغمضت عيني وتساقطَ من أحبهم في خيالي، كتساقط حبيبات الرمان، حين يستمع أحدهم للمرة الأولى إلى الأغنية العراقية التراثية “شلشل علي يالرمان”. شعرت بهم يداعبونني كحبة رمان متساقطة للتحبب، وشعرت بأنّي أودّعهم جميعًا.

الأطباء العراقيون صريحون إلى درجة الألم المريح، ثمة جدلية بين تطوّر الطب وقدرة الطبيب على مصارحة المريض من دون أن تترك أثرًا بالغًا في روحه. بعد ساعة من ظهور نتائج التحليل، أخبرني طبيب الأشعة صامتًا، بنتيجة التحليل، ثم تمتم: “طبيبك سيشرح لك النتيجة”.

لم يكن صعبًا قراءة النتيجة باللغة الانكليزية، كون الأرقام والصور تدل على انسداد في الشريان الرئيس للفخذ الأيمن بطول 18 سم، بنسبة متفاوتة بين 70 إلى 90 في المئة.

كان هناك متسع من الوقت للقاء الدكتور، فقرّرنا أن نقابل صديقي الشاعر الكردي عبدي جاجو، الذي يعمل في مزرعة أسماك تابعة لكليّة الزراعة، في أحد أطراف مدينة دهوك.

حاول عبدي أن يخرجني من أجواء نفسيتي التي لا يعرفها، ولكن بالنسبة إلى شاعر صديق، حاول في الساعتين اللتين التقينا فيهما، أن يقول كلّ الكلمات الجميلة والممتعة، وأحيانًا المضحِكة، ليخرجني من حالة سيئة يعتقد هو بأنّني أصبحت فيها. بعد حين حاولت أن أخرج من نمطية اللقاء، وتفاعلت مع أحواض الأسماك كما التقطت صورًا، ثم تفاعلت مع موضوع غذاء الملكة، وهكذا مرّ الوقت الذي كان بالنسبة إليّ تحصيل حاصل، تمامًا كالمشاهد الثانوية التي تسبق المشاهد الحاسمة في القصص الدرامية أو السينما.

المشهد الأخير مع الطبيب كان مثيرًا جدًا: إنّه داء بيرجر يصاب به مدخّن واحد من بين مئات الآلاف من المدخنين، والاستمرار في التدخين يعرّض الأطراف للقطع بعد أن تكون شرايين الأطراف قد انسدّت تمامًا.

لا يمكن فتح الشريان المسدودة، ولكن يمكن العمل على إعطاء دور أهمّ للشرايين الثانوية الصغيرة، من خلال الرياضة والابتعاد عن التدخين، جملة أحالتني إلى الاعتقاد بأنّ الطائفية قد غزت جسدي، فكأنما الشريان الرئيس هو الوطن الذي مات سواء هنا في العراق أو هناك في سورية.




المصدر