‘“رسائل إلى شاب مسلم ” دعوة للتفكير النقدي لجيلٍ مسلمٍ عصريّ’
10 شباط (فبراير - فيفري)، 2017
إبراهيم قعدوني
ما مفهومنا للحياة الجيّدة والسعيدة؟ وهل بإمكاننا الوقوف معًا في وجه أولئك الذين يستغلّون الدين ويطوّعونه لخدمة أجنداتهم السياسية المنحرِفة؟ وهل نترك للآخرين مهمّةَ تحضير أفكارنا وقناعاتنا بينما نكتفي -نحن- باستلامها جاهزةً فَحَسْبْ؟ وهل فكّرنا يومًا بإخضاع قناعاتنا الذاتية؛ وحتى معتقداتنا لعملية فحصٍ نقديّ؟ من خلال أسئلةٍ شائكةٍ ومؤرّقة كهذه، يتوجّه الكاتب والدبلوماسيّ الإماراتي، عمر سيف غباش، مؤلّف كتاب «رسائل إلى شاب مسلم «بِجُملةٍ من النصائح التي صاغها في شكل رسائل حواريّة ضمَّنها في كتابه الصادر باللغة الإنجليزية عن دار بيكادور Picador البريطانية مطلع هذا العام.
تحمل هذه الرسائل طابعًا شخصيًّا؛ إذ وجَّهَها المؤلّف إلى أبنائه الذين ولِدوا ما بين عامي 2000 و2004 كما يذكر في مقدّمته، وقد وضع فيها عمر سيف غباش، وهو الدبلوماسيّ الذي يشغل منصب سفير دولة الإمارات في روسيا، آراءه الخاصة حول كثير من القضايا الفكرية والدينية والاجتماعية التي تمسُّ معظم جوانب حياتنا وحياةِ أبنائنا، بوصفنا أفرادًا ننتمي إلى السياق الثقافي الإسلاميّ؛ وذلك في سياقٍ تساؤليّ ونقديّ يستعينُ بكثير من الأمثلة المعاشة والغنية بالدلالة والرمزية.
في رسائله الكثيرة، يشدّد الأب (والدبلوماسي) الذي يخاطب أبناءه على أهمية الإحاطة بوجهاتِ النظر المختلفة التي تتعلّق بأي فكرةٍ قبل مناقشتها أو نقدها أو تبنِّيها، وأن يكون لديهم تصوّراتهم الخاصة المبنيّة على محاكمات وافية يخلصون إليها بأنفسهم، بحيث تشكّلُ مناعةً لهم ضدّ أوبئة التطرّف والرؤية الأحادية المتشنّجة. ولا يتوقف الكتاب عند تقديم النصح الأبوي أو “الوصائيّ” [الوعظي]، إنّما يناقش قضايا إشكالية سياسية وفلسلفية واجتماعية، مثل “الحرب على الإرهاب” و”الإمبريالية الجديدة” و”أزمة السلطة في المجتمعات الإسلامية”، وغيرها من الظواهر التي تواجه الفرد المسلم اليوم.
ومثلما نقرأ، فإنَّ فكرة الكتاب القادحة جاءت بعد ولادةِ أول أطفال الكاتب، بالتزامن مع وقوع هجمات 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، منذ تلك اللحظة، يقول غبّاش “أدركت جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقي نحو هذا الطفل”، ورحتُ أفكّر كيف باستطاعتي أن أسهم عبر الفكر واللغة والأدب في تقديم ما من شأنه أن يعيد الثقة إلى العالم، وإلى المجتمعات الإسلامية، على حدّ سواء، بأنَّ لدينا كثيرًا مما يمكن تقديمه للبشرية، غير الأجيال المحبَطة والمتعصّبة.
يستند غبّاش إلى سيرته الشخصية في معالجةِ كثير من محاور الكتاب ورسائله، وهو المولود لأبٍ عربيّ وأمٍّ روسية، وكان والده قد اغتيلَ حينَ أخطأهُ أحد المتحمّسين للقضيةِ الفلسطينية، وأطلق النار عليه؛ ظنًّا بأنّه الهدف من وراء عمليته التي يُعتقد بأنها كانت تستهدف سياسيًا إسرائيليًّا آنذاك. كان غبّاش ما يزال طفلًا حينَ قُتِلَ أبوه، وفي ما يبدو؛ فإنّه أمضى وقتًا طويلًا وهو يتأمّلُ في النتائج المهولة التي جلبها العنف إلى حياته الشخصية وحياة أسرته كذلك.
يتحدّث غباش أربع لغات هي العربية والإنجليزية والروسية والفرنسية ولا شكّ في أنَّ امتيازًا كهذا يمنحُ المرء قدرةً على الإحاطة بالمسائل من جوانبها المتعددة، ومن منظورات ثقافية مختلفة، إذ إنّ كلّ لغةٍ نتعلّمها هي بمنزلة حياةٍ أخرى نحياها بتلك اللغة وبثقافة أهلها. ويقول: “كلّما امتدّت فترة خدمتي في عملي سفيرًا، كلّما ازداد يقيني بقدرة الأفكار واللغة على جعل هذا العالم يبدو أفضل”.
يستهلُّ المؤلّفُ كتابه باستعادةٍ نوستالجيّةٍ لأياّم طفولته في دولة الإمارات، قبلَ اكتمال نهضتها الحديثة، “كان أبناء جيلي عمومًا إمّا من البدو الذين يسكنون الصحراء، أو من الصيّادين الذين يعملون في صيد الّلؤلؤ، أو ممّن يتاجرون بالبضائع”، “كانت الأفكار تطوف من حولنا، إلاّ أنّها قلّما كانت على صلةٍ بالواقع”، “كان مفهوما “الحلال” و”الحرام” هما الأكثر شيوعًا في أذهاننا وحياتنا”. “وكان البالغون يصحبوننا معهم إلى صلاة الجمعة؛ حيثُ يجلس الجميع بعضهم بجانب بعض، العامل والمليونير، كان المشهد في منتهى الإمتاع لنا، نحن الصّغار
“لا شكّ في أنّنا أحببنا تلك الأفكار التي حدّثونا عنها في المدرسة، إلاّ أنّنا كنّا نتركها وننصرف إلى عالمٍ آخر لا يشبه تلك الأفكار التي بدت على النقيض من ذلك العالم، ولربّما كانت تلك أبرز نقاط ضعفها. كانت تلك حقبة نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات حين كانت الحرب الأهلية اللبنانية تطحنُ الفرقاء اللبنانيين بينما اندلعت حربٌ أخرى بين دولتين مسلمَتين، هما إيران والعراق. قيلَ لنا آنذاك بأنّ “الأمّةَ” تدفع ثمن تخلّيها عن الدين السويّ وأنَّ الحل لاستعادة “مجد الأمّة” في “العودة إلى الجذور”، أي: أن نحيا على طريقة القرون السابقة. كان ذلك تناقضًا لا يحتمله عقل، كما يقول غبّاش.
يشدّد الكاتب في رسائله/وصاياه/نصائحه لأبنائه ولغيرهم من الشباب على أهمية أن نتصدّى للأسئلة التي ربما يخبرنا بعضهم بأنها ليست ذات أهميّة، أو أنّها لا تنطبق على سياقنا الثقافيّ، فالسؤال أداة العقل الأهم. وإلى جانب ما يبدو أنّها الفكرة الرئيسة التي تحاول الرسائل بلورَتَها بمنتهى الذكاء، وهي فكرةُ الاستقلالية الفردية عن كلّ ما من شأنه توظيف الذات البشرية لصالح منظومته القيمية الأحادية؛ ثمّة فكرةٌ أخرى تبرِزُها الرسائل بمنتهى الوضوح، ألا وهي تجنّبُ التزام الصمت حينما يكون الكلام واجبًا، فإلى جانب دعوتهم للحفاظ على استقلاليّتهم الفكرية والثقافية وبأن يفكِّروا لأنفسهم بدلًا من توكيل الآخرين بالقيام بهذه المهمّة البالغة حساسيتها، إذن؛ يخبرهم بأنّه ليس من المفترض أن يفكّر رجال الدين أو العلماء أو الدعاة أو سواهم بالنيابة عنّا، يحثُّ المؤلّف الأبناء، ولربّما القرّاء على التمسّك بحقِّ التعبير والكلام؛ موصيًا ابنه بأنّه ليس عليك أن تصمت لأنّ أحدًا ما يريد منك فعل ذلك، ولعلّ أهمية تلك النصيحة تبرز من خلال فصلِ كاملٍ يخصّصه لهذه النصيحة.
يعود الكاتب إلى سيرة طفولته في سردٍ دافئ لاستحضار أمثلةً أقرب إلى إدراك ابنه، فيسرد له بعضًا من الأمثلةِ حول أسئلته التي لم يتوانَ عن طرحها كلّما شعر بضرورة ذلك، وعلى الرغم من أنّ غالبيّة المحيطين به من الكبار اعتادو نهيَهُ عنها؛ “لعدم جدواها”، خصوصًا إذا ما كانت تخصُّ الدين أو السياسة أو الجنس. “كنتُ أسألُ معلّم الدين: كيف تتأكّد أنّ الله موجود؟ ولماذا نصلّي؟ وهل من المعقول أن يكون الله قد خلقنا لعبادته فحسب، ألا يبدو الأمر أنانيًا بعض الشيء؟ وغيرها من الأسئلة التي ألحّت على طفولتي كما يقول الكاتب، وتحضُر تلك الأمثلة في معرضِ المناقشة الحصيفة التي نطالعها حول حوادث كحادثة مقتل رسّامي صحيفة شارل إيبيدو الفرنسية على خلفية نشرها رسومًا مسيئةً للإسلام، إذ نلاحظ معالجةً “دبلوماسيّةً” ذكيّةً لمسألةٍ بالغة الحساسيّة.
“حينما ننظر إلى القدر المريع من العنف الذي يلفُّ البشرية -كما يقول- فإنَّ على نظرتنا تلك أن تتحلّى بالمسؤولية تجاه العالم الذي نحيا فيه وننتمي إليه، “انظروا إلى العالم بمنظور المسؤولية”. افعلوا الخير واهتمّوا بحاجات الآخرين من حولكم، تلك مسؤوليةٌ تقع في جوهر الإيمان الإسلامي ومنظومته القيمية. “علينا أن نتحلّى بالمسؤولية عن السلام، بوصفه جوهرًا إسلاميًّا”، ذلك ما يقوله الكاتب في إحدى رسائله إلى أبنائه.
يطرح الكتاب كثيرًا من الآراء “الليبرالية” إذا ما جاز التعبير، إذ إنّه لا يتفق مع كثير من الأدبيات الدينية التقليدية السائدة التي لم تخضع لما يلزم من النقد المنطقيّ، ويؤكّد حريّة المرأة ومساواتها غير المنقوصة بالرجل، وأهميّة دورها في بناء المجتمع وتنميته، إذ يقول الكاتب لابنه الذي يستهلّ معظم رسائله له قائلًا: “حبيبي سيف” إنّك محظوظ، فقد نشأتَ في أسرةٍ وفي زمنٍ تحظى فيه المرأة بالقوّة الكافية…”.
يجمع الكتاب ما بينَ حرص الأب وعنايته من جهة، وبين حصافة الدبلوماسي وذكائه في ملامسة أشدّ المسائل تعقيدًا، كما يحفل بكثير من التفاصيل المهمة والممتعة حول تاريخ المنطقة على نحوٍ عام، وتاريخ دولة الإمارات وتجربتها على نحوٍ خاص، كما أنّه يصلح لأن يكون رسائل للآباء أيضًا وليس للأبناء فحسب، إذ تُشكّل مسألة تنشئة جيلٍ يستطيع تخطّي العقبات المتزايدة في عالمٍ تهيمِنُ عليه مناخاتٌ من الكراهية والاستقطاب الأيديولوجيّ والتطرّف والمشكلات الثقافية التي تأتي ظاهرة الإسلاموفوبيا في عدادِ أبرزها؛ أحد أبرز التحديات التي تواجه مجتمعاتنا اليوم.
يقول الكاتب في بداية الفصل الأول من الكتاب؛ مخاطبًا أكبر أبنائه: “حبيبي سيف، لقد اعتدتَ على سؤالي: لمااذ أعمل على تأليف هذا الكتاب، وما فكرته؟ أحيانًا كنتُ أقول لك بأنَّني أكتبه من أجلك، وأحيانًا من أجل أمثالك من الشباب المسلم، كنت أراك وأنت تكبر وأفكّر في التحديات التي واجهتها وسوف تواجهها، وفي بعض الأحيان كنتُ أرى في الكتاب رسائل أوجّهها لنفسي أيضًا”.
لربّما يعدّ الكتاب دليلًا قيّمًا لأولئك الآباء والأمهات الذين يواجهون تحدّيات تربية أبنائهم في مجتمعاتِ الهجرة في ظلِّ تنامي النزعات الثقافية المعادية للتعدّدية، وتلك العنصرية والإسلاموفوبية، إذ إنّه يساعد عبر حواراته الذكية في نزع فتيل التصادم وتفكيك الرؤية المتشنّجة لصالح الإعلاء من شأن الرؤية التوافقية والمعرِفية، والأهم أنّه يأتي باللغة الإنجليزية، ما مِن شأنِه تجاوز عقبة اللغة التي قد تشكّل عثرةً في الكثير من الحواضن العربية في دول الشتات، كما أنَّ ترجمة كتابٍ كهذا إلى العربية سوف تكون بلا شكّ إضافةً قيّمةً للقارئ العربي أيضًا
[sociallocker] [/sociallocker]