سينما عربية وقلق أوروبي ودعوة سكان القطب إلى برلين


تبدو الدورة الجديدة لمهرجان برلين السينمائي مثل أغلب سابقاتها، حيوية، متجددة الأفكار تستغل قدرتها على جمع مئات الأفلام لابتكار ثيمات تمس جوانب من حياتنا وعالمنا، مضامين بعضها لم يُلتفت إليه كفاية، ما يعطيها أحياناً طابعاً «ثورياً» تثور معه نقاشات حول حدود دوره مهرجاناً معنياً بالسينما في الدرجة الأولى ولا ينبغي أن يزج نفسه في قضايا سياسية واجتماعية مباشرة، مثل مساعدة المهاجرين القادمين إلى ألمانيا -عبر مشاريع مشتركة بينه وبين مؤسسات اجتماعية تجاوزت طبيعتها مبادرته العام الماضي، بتخصيصه للمهاجرين مئات بطاقات دخول عروضه مجاناً وأعاد العمل بها في دورة هذا العام ثانية-، إلى أن يصبح طرفاً في توسيع دائرة الاهتمام بهم ومحاولة اشراكهم في الحياة الثقافية!
من المؤكد أن قدرة هذا المهرجان على ملء ثيماته بسهولة وإغنائها بتفاصيل إضافية، تعطي انطباعاً واقعياً عن مكانته وتكريس ذاته واحداً من أهم المهرجانات في العالم وأوسعها شعبية. ومن دون تردد، تمكن اضافة توصيف آخر له هو كونه «مروج» سينمات مناطق غير تلك المتسيّدة إنتاجيًّا، على سبيل التحديد السينما العربية. قد يبدو هذا التوصيف استباقاً أو طموحاً، لكن المعطيات تشير إليه، فخلال السنوات الأخيرة وجدت السينما العربية وليس أفلامها فحسب، مساحة جيدة لها في رحاب «البرليناله» الواسع، ففي سوقه نشطت مؤسسات معنية بالفيلم العربي، وإلى ندواته حضرت، وفي قاعاته كانت فرص عرض أفلامها أكثر من وفيرة، زادت وتيرتها مع «الربيع» العربي ولم تنخفض. والمهم في هذا المجال أنها لم تكن محصورة بإشراك فيلم أو اثنين في مسابقاته الكبيرة، بل تعدتها إلى التفاصيل والثنايا.

جردة عربية
والحال أن عملية جرد سريعة للحضور العربي في الدورة الحالية (9- 19 فبراير) تجلي بعض جوانب الفكرة، ففي لجان التحكيم يشغل العرب ثلاثة مقاعد، في المسابقة الدولية (الدب الذهبي) انضمت المنتجة التونسية درة بوشوشة إلى فريق الهولندي بول فيرهوفن. وفي مسابقة «جلاسود للأفلام الوثائقية» هناك العراقي الأصل السويسري الجنسية سمير، وإلى عضوية لجنة «جي دبليو أف أف» المانحة جائزة أفضل فيلم روائي طويل أو لصانعه اختير المخرج السعودي محمود الصباغ. لو دققنا في الأسماء سنجد أنها قد سبق لأصحابها المشاركة في البرليناله، تعرف عليهم منضموها وجمهورها، بوشوشة مثلاً حضرت العام الماضي بصفتها منتجة للفيلم التونسي «نحبك هادي» المشارك في المسابقة الدولية، والمخرجان العراقي والسعودي عرضا أفلامهما داخل إحدى أقسامها. الأول قدم «الأوديسا العراقية» والثاني «بركة ضد بركة» وهما عملان حظيا برضا النقاد وبعض الجوائز. سوق المهرجان (الفيلم الأوروبي) من بين الأكبر والأهم عالمياً ترعى ندواته كبريات المطبوعات المختصة بالسينما، منح ضمن ندوته حول «تطوير صناعة السينما» حيزاً لمناقشة التحديات التي تواجه صناعة السينما العربية، بعد أن لاحظ المهتمون بها مؤشرات على تطورها، سوقاً وإنتاجاً وأن لم يكن متساوياً في كل الأجزاء، فمساحة العروض وعدد القاعات وحجم الاستثمار تشهد في منطقة الخليج توسعاً، فيما تشهد مصر تراجعاً فيها. كما يواجه المنتجون والمخرجون تحديات تطور القنوات التلفزيونية وانتشارها. فيما ينشط «مركز السينما العربية» لنسج وشائج تعاون مع المراكز السينمائية العالمية، وفيه يجد مجالاً حيوياً لبحث شؤون السينما العربية خارج حدودها الجغرافية، وفوق كل ذلك الحضور المتساوق مع اهتمام المهرجان بالسينما العربية أعلن منحه «كاميرا برلين» للناقد السينمائي المصري سمير فريد. التفاتة مهمة جداً، باعتبار فريد واحداً من أبرز نقاد السينما العرب وبوصفه خبيراً سينمائياً تدربت عيناه الحادتان خلال دراسته في معهد الفنون المسرحية العالي، ولازمها بالكتابة في الصحف من دون انقطاع منذ عام 1965، وكان حضوره ومشاركاته ملحوظة في المهرجانات الدولية، عضواً في الكثير من لجان تحكيمها. كرمه مهرجان أوسيان ـ سنيفان الهندي ودبي الإمارتي على مجمل منجزه فيما ظل ضيفاً مواظباً على دورات البرليناله لعقود. كما بادرت الدورة للاحتفاء بمخرجين مغربيين راحلين، هما أحمد البوعناني (1938- 2011) ومحمد عفيفي (المتوفى عام 2014) كرائدين للسينما المغربية، وستُعرض ضمن البرنامج الخاص بهما مجموعة من أعمالهما القديمة، من بينها «السراب»، أما عفيفي فسيقدَّم له فيلمان قصيران، أحدهما «العودة إلى أغادير»، وللتوافق مع المناسبة وقتوا عرض فيلم علي الصافي الجديد «عبور البوابة السابعة» المهموم بتوثيق منجز وحياة البوعناني.
المشاركة العربية على مستوى الأفلام متعددة، ومنذ الآن يكثر الحديث حول فيلم «تحقيق في الجنة» ومضمونه يعكس انشغال بال صانعه الفرنسي الجزائري مرزاق علواش بموضوع الإرهاب والتطرف الديني، الذي عالجه في روائيّه «التائب» وفي وثائقيّه «اليوم يمضي» بالأسود والأبيض، لإشباع بحثه ورصد الدوافع وراء انضمام شباب إلى منظمات إسلامية متطرفة وقيامهم بعمليات انتحارية. ليس بعيداً عن ذلك الهاجس الذي يشغل العالم بأسره اليوم، يلامس فيلم رجاء العماري «جسد غريب» المعروض في «فوروم»، وقصته تدور حول سامية المهاجرة التونسية الواصلة إلى فرنسا بطرق غير شرعية، والمسكونة بالخوف من ملاحقة أخيها المتشدد إياها. الفيلم من بطولة سارة حناشي والفلسطينية هيام عباس التي تشارك في بطولة فيلم آخر يعرض ضمن قسم «بانوراما» وعنوانه «Insyriated»، وداخل قسمها (الخاص) سيعرض فيلم المغربي هشام العسري «ضربة في الرأس» ما يشي باهتمام رعاتها به وتلمّسهم فيه موهبة سينمائية واعدة حرصوا على أن تأخذ فرصتها عندهم حين عرضوا له فيلميه السابقين «جوع كلبك» و «البحر من ورائكم». مغربياً أيضاً، سيشاهد جمهور برلين فيلم تالا حديد «منزل في الحقول». وفي قسمي «المنتدى» و «المنتدى الموسع» أدرجت مجموعة أفلام عربية أخرى بينها اللبناني «شعور أكبر من الحب» لماري جيرمانوس سابا و «سكون السلحفاة» لروان ناصيف وللمصري محمود لطفي، «صيف تجريبي» وفيلم «اصطياد أشباح» للفلسطيني رائد أنضوني، فيه يعيد صوغ حكايات أسرى سجن المسكوبية وثائقياً، اشترط على المشاركين فيه أن يكونوا من سجنائه ومروا بالفعل بتجربة التحقيقات التي تجريها معهم الشرطة الإسرائيلية وعادة ما يكونون داخلها معصوبي الأعين، ليرسم كل واحد منهم تصوراته عن المكان الذي لم يره في الواقع. فالمكان شبحي ومنه جاء عنوان الفيلم. هذا غير الأفلام القصيرة وبعض المشاركات العربية في قسم «أجيال».

 

سينما متجمدة شمالية
من ثيمات الدورة السابعة والستين «سينما الدائرة القطبية»، أثمر جهد منظميها عن جمع تسعة عشر فيلماً (تسعة وثائقية وعشرة روائية من فلندا، روسيا (سيبيريا)، كندا ودول أخرى) يمكن بمجموعها إعطاء فكرة عن الحياة في القطب المتجمد الشمالي ومقدار الخطر الذي يهدد وجودها بسبب المتغيرات المناخية واقتراب «شبح» الرأسمالية من تخومها المعزولة والمنسجمة بوداعة مع الطبيعة. وتوافقاً مع ما تشهده أوروبا من تغيّرات سياسية ومجتمعية شديدة اقترح ثيمة «أوروبا أوروبا»، ضمت في متنها أفلاماً تلامس واقعها وحساسيات مجتمعاتها، معتبراً فيلم الإسباني فيرناندو ليو دي أرانوا «دليل السياسة» يلخص جانباً مهماً منها، ويكشف زيف الدعاية وصخب الإعلام حول الهجرة وما يجري في سوريا للتغطية على صعود اليمين المتطرف وتهديد ديموقراطيتها العريقة.
إلى هذا، نجد كيف أن موضوع التمييز العرقي ضد السود، والصدامات ذات الطابع العنصري في ولايات أميركية عدة، فرض ذاته على الدورة وحث منظمي «بانوراما» على استحداث خانة تستوعب أعمالاً تقارب الموضوع، واحد منها ذاع صيته قبل عرضه في البرليناله ورشح للأوسكار، عنوانه «أنا لست عبدك» للمخرج راؤول بيك. وتحوي ثيمة «عوالم سوداء» أيضاً الجنوب أفريقي «جرح» والبرازيلي «»فازانتي». موضوع الهجرة يظل حاضراً، وتصدى له الفلندي آكي كوريسماكي في «ثلاثية مدن الموانئ» في فصلها الثاني «الجانب الآخر من الأمل»، ويعرض في برلين، فيما يشترك لبنان مع السنغال وبلجيكا وفرنسا في إنتاج فيلم اختير ضمن المسابقة الرسمية عنوانه يحمل اسم المغنية الكينشاسية «فيلِسِتي».
لا يريد مدير المهرجان ديتر كوسليك ترك موضوع النازية، فيلحّ كل عام على زج مجموعة أفلام تتناولها بمستويات مختلفة، ففيلم الافتتاح عن حياة عازف الغيتار ومؤلف موسيقى الجاز الشهير الغجري الأصل «دجانغو» (بطولة الممثل الجزائري الأصل رضا كاتب) يلامس الموضوع، حين يصل إلى فصول من تجربته في فرنسا خلال مرحلة صعود الفاشية، مجسداً مدى الأذى الذي أصابه وعائلته منها ومع كل هذا لم يتوقف. صحيح أن مخرجه أتين كومار يقف لأول مرة خلف الكاميرا إلا أنه ليس ببعيد من أجواء الصراعات المحتدمة، فقد كتب وأنتج «عن الآلهة والرجال» وساهم في كتابة «تمبكتو».
وأخيراً، نلاحظ مع «البرليناله» أن حتى تكريماتها وتتويجاتها أرادتها خاصة بمزاج ألماني ينشد الاختلاف والتميز. لم يذهب المهرجان للمشاهير من المخرجين والممثلين هذه المرة بل إلى مصممة أزياء الأفلام الإيطالية الحاصلة على الأوسكار ميلينا كانونيرو، فيما تظل بقية الخانات والأقسام تشتغل خلال عشرة أيام ليشاهد البرلينيون كنوزها ويقابلوا بشراً وسينمائيين من كل العالم. صحيح أن مهـرجـانـهم شعبـي بامتـياز لكنه أيضاً «بؤرة» سينمائية تستقطب الكثر.



صدى الشام