on
اكتشاف 168 قصيدة موريسكية في بالينثيا الإسبانية
تركزت دراسات الموريسكيين، بدايةً من الاستعراب الإسباني وحتى وقت قريب، على مآسيهم المرتبطة أولًا بتحريم ممارسة العقيدة الإسلامية وما ينجم عنها من أي مظهر ثقافي، مثل التحدث والكتابة باللغة العربية أو ترديد الأناشيد والأغاني أو تأدية رقصات مثل رقصة الثامبرا التي ميزتهم، كما تركزت، طبعًا، حول محاكم التفتيش المتعسفة التي ظلت في التاريخ الإنساني كرمز للتعصب الديني وأحد عواقب استغلال السلطة السياسية لاسم الدين لارتكاب فظائع ومذابح باسم الرب، واتجهت بعض الدراسات لرصد المجتمع الموريسكي المغلق والمضطهد، ما أدى لثورة البشارات التي قامت بالأساس للدفاع عن حرية العقيدة والحرية في ممارستها والمطالبة باسترداد الأراضي التي صادرتها السلطة الكاثوليكية من المسلمين، لإفقارهم وإذلالهم، عقب إعلان فرمان ملكي يقضي بتنصير المسلمين أو تهجيرهم عام 1520.
اعتمدت هذه الدراسات، في أغلب الأحيان، على ما دوّنته الدواوين والسجلات والمحاكم الإسبانية واحتفظت به السلطات المتعاقبة في أراشيف الدولة بكل مدينة، بما فيها أحكام التفتيش وأسبابها، وهي، وإن تميزت بسد فراغات كبيرة في هذه الفترة التاريخية المضطربة، إلا أنها تظل الرواية الرسمية أو التاريخ الرسمي الذي، رغم ذلك، تمكن المؤرخون من خلاله من كشف العقلية المتعصبة التي كانت تدير إسبانيا الكاثوليكية، ودان الكثير منهم، من أصحاب الضمائر، الممارسات غير الإنسانية التي تعرض لها مسلمون أندلسيون حتى بعد تنصيرهم (الظاهري أو الحقيقي) وتعرض له أبناؤهم الذين تعمّدوا في كنائس كاثوليكية ولمدة تقل قليلًا عن مائة عام، حتى طردهم النهائي بداية من عام 1609 وحتى 1614.
غير أنه في النصف الثاني من القرن العشرين، وربما تأثرًا بنظرية ميشيل فوكو في قراءة التاريخ بعيدًا عن الوثائق الرسمية، اتجهت الدراسات الأندلسية، ومن داخلها الموريسكية، لدراسة وثائق البيع والشراء وعقود الملكية، وبدأ البحث عن ودراسة أوراق تخص الموريسكيين، كتاباتهم، خطاباتهم، تدويناتهم السريعة، وبالطبع أدبهم. اكتسبت هذه الأوراق أهمية كبرى، إذ كانت المعبّر الحقيقي عن صوت المهزومين. لقد طرحت الدراسات الجديدة الموريسكيين باعتبارهم أفرادًا أيضًا، وليسوا كتلة بشرية تعتنق في مجملها نفس الأفكار والأهداف وأساليب الحياة، بالتأكيد تساووا جميعًا في الظلم والفتك بهم، لكن خلال ما يقرب من قرن، ما يعني عشرة أجيال متتالية، تغيرت الأفكار وتراجعت الثوابت، ونشأت أسئلة جديدة لدى الجيل الثالث والرابع وما بعدهما في ما يخص هويتهم، وهو السؤال الجوهري الذي تعاظم مع التهجير، إذ هجّروا بذريعة أنهم مسلمون وعرب، وفي الأرض الجديدة التي تحتم عليهم الحياة فيها، خاصة في المغرب وشمال أفريقيا، اضطهدوا باعتبارهم مسيحيين إسبانًا. وأدرك الأجداد، الذين عاشوا فترة التحول السياسي والتنصير خطورة ذلك، فبدأوا الكتابة باللغة الأعجمية (الألخاميدو كما يسميها الإسبان) وهي كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.
بذلك اكتسبت دراسة أدب الموريسكيين، كطريق رئيسي للتعبير عن أفكارهم، أهمية كبرى. وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل أن أعلنت، مؤخرًا، المستعربتان كارمن بارثيلو وآنا لابارتا، الباحثتان في قسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بالينثيا، عن اكتشاف 168 قصيدة موريسكية مكتوبة باللغة العربية، ما يعتبر أهم كشف في الدراسات العربية في السنوات الأخيرة، ويفتح أفقًا جديدًا في فهم وإدراك حياة الموريسكيين، بلسانهم، بالإضافة لتأكيد استمرار الكتابة بالعربية وبحروف عربية، رغم مخاطر ذلك في ظل إعلان الدولة القومية الكاثوليكية.
الموريسكيون في قصائدهم
بحسب ما أدلت به المستعربتان بارثيلو ولابارتا، اللتان قامتا بترجمة وتحرير القصائد، ودراسة الثقافة الموريسكية لما يقرب من أربعين عامًا، فالمؤلفون موريسكيون من مدينة بالينثيا الإسبانية، والقصائد ترجع للقرن السادس عشر، ومن ضمن الموضوعات التي تتناولها محاكم التفتيش، كما تتناول موضوعات مثل الحب والدين وأحداثًا يومية.
تؤكد لابارتا أن الجالية الموريسكية البالينثية “كانت تستخدم اللغة العربية الدارجة يوميًا، وأن هذه القصائد تدحض فكرة تحلل الأقلية المقهورة أو فقدانها لثقافتها”. هناك من امتثل لثقافة المنتصر وهناك من حافظ على ثقافته القديمة، لكن في بدايات القرن السابع عشر تعرضوا جميعًا للطرد بفرمان الملك فليبي الثاني. وهكذا ضاعت اللغة العربية باللهجة التي كان يتحدث بها البالينثيون، ما صعّب عملية الترجمة وفهم بنية القصائد.
الأرشيفات الإسبانية احتفظت بمراسلات وسجلات تجارية وحسابية ووصفات طبية، من بين أشياء أخرى للموريسكيين البالينثيين، غير أن الكشف الجديد يعيد النظر في الإرث الثقافي لموريسكيي القرن السادس عشر، وقد مثّلوا في مملكة بالينثيا نسبة هائلة، إذ وصل عدد المهجّرين فقط إلى شمال أفريقيا من 120 إلى 130 ألف فرد من إجمالي 400 ألف مواطن بالينثي، بالإضافة إلى آلاف الموريسكيين الذين فقدوا حياتهم أثناء المواجهات السابقة للطرد، وآخرون لقوا مصرعهم في القوافل التي ساروا فيها متجهين للميناء النهائي.
صعوبة الكتابة والترجمة
من بين الصعوبات الرئيسية التي واجهت المستعربتان نسخ القصائد، إذ كانت الكلمات ملتصقة ببعضها، وترجح الباحثتان أن القصائد كُتبت لتغنى على جمهور، وأنها كُتبت على مدى سنوات طويلة، بعض الأوراق كانت مخصصة للشعر، لكن البعض الآخر كُتِب على أوراق مفردة ودُس بين ملفات بموضوعات أخرى، وأنها قصائد متأخرة زمنيًا، وأغلبها لم يُراجع أو يحرر. الباحثتان أعلنتا عن تفاصيل الكشف عقب الانتهاء من الترجمة، وسريعًا ما صدرت القصائد في كتاب بعنوان “المغني الموريسكي”، ما اتضح فيه خصوصية هذه القصائد في الأدب العربي ذي الطابع الشعبي، قصائد ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم، بحسب الباحثتين في جريدة “بينتي مينتوس”.
الكثير من القصائد تناول موضوعًا دينيًا، وأخرى موضوع العشق، دون غياب للأساطير والمغامرات الشخصية في أزمنة الإسلام الأولى. تطرقت كذلك لأنبياء العهد القديم والعهد الجديد، بما فيها أسطورة لقاء المسيح بجمجمة تحدثه. ثمة قصائد طويلة تسرد شعريًا الكثير من الأحداث المعاصرة، مثل استيلاء العثمانيين على جزيرة رودس اليونانية عام 1522، وحصار كارلوس الخامس للجزائر عام 1541. ثمة قصائد أخرى تنتقد سلوك السلطات المسيحية، الكنيسة ومحاكم التفتيش.
هرب وقصائد
من بين الأحداث المروية كذلك هروب عدد من السكان الموريسكيين من قرى “كايوسا” “بولولا” و”ألجار” البالينثية عام 1580، إذ قرروا الرحيل بمساعدة حاكم الجزائر الذي جاء بـ 1800 جندي و23 مركبًا ورسى في “لاس بينياس دل البير” وحمل معه كل موريسكيي هذه القرى، بينما كان المسيحيون العجز يختبئون في القلاع، بحسب الباحثتان الإسبانيتان.
تتكون هذه القصيدة الطويلة من 150 بيتاً، ومرقّمة بـ 13 في كتاب “المغني الموريسكي”، يقول الشاعر في أحد مقاطعها:”ثم يا أيها الحضور انصتوا/ سأتلو عليكم قصيدة ستظل خالدة/ حكاية كايوسا وبولولا وألجار/ يا أيها الحضور اقتربوا وأنصتوا/ يا أيها الحضور كان يوم ثلاثاء/ قبل الظهر بساعتين/ المسلمون من البحر خرجوا/ إلى كايوسا توجهوا/ ثم نهض القائد وتحدث/ قال لهم:”أيها النبلاء/ بسفني جئت لكم/ جئت لأخرجكم من أرض المسيحيين/ جئت ولن أترك رجلا أو امرأة/ سأنجدكم جميعًا بالعدل”.
تقول كارمن بارثيلو “لا بد أنها كانت خدمة كبيرة أسداها القائد لأقلية تختنق بسبب تعنت السلطة المسيحية والكهنة والجيران”. لكنها لم تكن محاولة الهروب الأولى، إذ تشير بارثيلو إلى عام 1579 كمحاولة هرب فيها 40 شخصًا توجهوا لشمال أفريقيا عقب تغول محاكم التفتيش.
أفق جديد
إذا كانت الدراسات الأندلسية قد تركزت من قبل على التاريخ والسياسة وبنية المجتمع المسلم والفكر والأدب في زهوة الأندلس، فلا بد أن الكشف الجديد سيفتح طريقًا لدراسة “أدب الهزيمة” الموريسكي، أدب ما بعد سقوط غرناطة، بعد أن انحصرت الدراسات الموريسكية على محاكم التفتيش ولم تلتفت كثيرًا للجانب الفكري والروحي والأدبي لمن تعرضوا للتعذيب والتنصير. ولا بد أن هذه الأرض البحثية ستجود بكشوفات تؤكد كيف حوّل الموريسكي هذا الواقع القبيح إلى فن جميل، إذ كشفت التجربة الإنسانية الطويلة أن الأدب ابن المأساة، وأن تراجيديا الحياة قادرة على أن تخلّف وراءها أدبًا عظيمًا، ليس فقط على مستوى التوثيق، بل أيضًا، وبالأساس، على مستوى الجمالية والعمق الإنساني.
عن الباحثتين
آنا لابارتا: مستعربة وأكاديمية عملت في العديد من الجامعات الإسبانية مثل برشلونة، ثاراغوثا، قرطبة، قبل أن تستقر في جامعة بالينثيا منذ عام 1995.
كارمن بارثيلو: مستعربة وأكاديمية بجامعة بالينثيا، كانت أول عميد لكلية الآداب والفلسفة.
تخصصت كل منهما في اللغة العربية بالأندلس وكرستا جهودهما البحثية خلال أربعين عامًا لدراسة اللغة والثقافة والتاريخ والإنتاج الكتابي والأدبي للمسلمين البالينثيين منذ القرن الثامن وحتى عام الطرد 1609، وخاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
نشرت كل منهما العديد من الكتب ومئات المقالات، سواء كل منهما على حدة أو بالتعاون معًا. من بين أعمالهما “الأقلية المسلمة في البلد البالينثي” لـ كارمن بارثيلو، “معجم الموريسكيين البالينثيين” لـ آنا لابارتا، و”أرشيفات مورسيكية” للمؤلفتين معًا، وكذلك “بالينثيا العربية في الشعر والنثر”.
صدى الشام