«الأسلاك الشائكة» تحمي القاتل من القتيل


تنتصب «الأسلاك الشائكة» في العادة أمام المراكز الأمنية وفوق أسوار السجون العالية، لتشي بمعاني القيد أو القهر، وتذكّر بأن المنطقة القابعة خلفها مغلَقة، ممنوع دخولها أو الاقتراب منها.
هذه الأسلاك غدت في زمننا المعاصر جزءاً من الحياة، خصوصاً في دول الجنوب الفقير، فكيف يمكن أن ننظر إليها ككائن دائم موجود بين ظهرانينا لجهة أثرها المباشر على الإنسان من الداخل؟
المعرض الذي نظمته «مؤسسة خالد شومان» لرائد عصفور، وضم أربعين صورة فوتوغرافية، وأخرى مثلها تعرض على الشاشة، يحاول أن يجيب عن هذا السؤال المؤلم. فتناولات الكاميرا لهذه الأسلاك الشائكة، بشرائطها المعدنية وحوافها الحادة، المؤذية في نتوءاتها، وبأشكال مختلفة في انحناءاتها وزواياها، تحمل معاني متنوعة ومتناقضة في آن واحد. إذ يكتشف المتلقي وهو يتأمل الأعمال المعروضة حتى السادس من نيسان (أبريل) المقبل، أنه يتعايش مع وجودها بمرور الأيام، حتى تغدو جزءاً من عالمه.
وتفصيلاً، يجد نفسه أمام صور تعرّف إليها طفلاً في مشهده البصري اليومي، واستمر احتكاكه بها حتى وهو يدخل سن الشيخوخة، بينما حالُها يتحسن لجهة امتداد أسلاكها يوماً بعد آخر، ليس على المساحات والحيزات المكانية فحسْب، وإنما في وجدانه ووعيه أيضاً، لأنها شبيهة ببقية الأشياء التي اعتاد أن يراها يومياً.
إنها هي نفسها حواجز الأسلاك الشائكة في الواقع، رآها المشاهد صوراً في هذا المعرض، ومنها لمنع مرور البشر، كالذي أقيم على حدود دول أوروبية لمنع دخول أفواج المهاجرين الهاربين من مناطق الصراع والتناحر في سورية والعراق.
ومن بين الصور واحدة تُظهر حاجزاً في إحدى مناطق الصراع العربية راهناً، لمنع مرور الناس باتجاه دارٍ للعبادة، وفي إحدى الصور غاب العلَم الفلسطيني في رام الله، إذْ بدا كغلالة لونية تتوارى من كثافة حلقات هذه الأسلاك الضخمة.
وجاءت صورةٌ أخرى لتعمّق علامات البؤس فوق جدار الفصل العنصري في فلسطين، فعلى رغم ارتفاعه الشاهق، وبالتالي صعوبة اجتيازه، ثبتت سلطات الاحتلال الإسرائيلي كتلة ضخمة من حلقات الأسلاك الشائكة، لتكرّس فضاءات الإحباط لدى الفلسطينيين.
وفي سياقٍ مختلف، بدت إحدى الصور تظهر فوائد بيئية لهذه الأسلاك، وكأنها فلاتر تمنع وصول الورق وأكياس النايلون والملابس المهترئة إلى إحدى المناطق السكنية. وفي أخرى أظهرت استخدام نازحين في أحد مخيمات الأونروا الأسلاكَ الشائكة كحبال لتعليق ملابس مغسولة.
وحدها الأرض في إحدى الصور أطاحت «الدلالة القهرية» لهذه الأسلاك، من خلال معانٍ رمزية، فتحولت الأسلاك من أداة منع وقهر إلى شيء متهالك يذوب في الأرض وكأنها «مريضة»، فجعلتها الرطوبة أشياء غليظة بفعل الصدأ المتراكم عليها في طبقات، لتبدأ الذوبان والتلاشي في باطن الأرض مع مرور الزمن.
يقول رائد عصفور عن معرضه لـ «الحياة»: «حاولت في المعرض الذي اخترت الأعمال المعروضة فيه من بين نحو ألف صورة، أن أظهر قسوة هذا السلك في منع الإنسان من الوصول إلى وطنه أو بيته. إنه المفردة التي يعمدون إلى سلب الأرض بواسطتها، وهناك من يحدد مسارك الحياتي أحياناً باستخدام هذا السلك»، موضحاً أن هذه الصور التقطت في مدن عربية وغربية.
يضــيف: «بائسة هي الأسلاك التي تمنع التواصل واللقاء والحياة. التي تشـــطر الرؤية، وتمنع الحكايات من الاكتمال لتحوّلها جماداً رماديّاً حزيناً… يضع القاتل الأسلاك ليحمي نفسه من القتيل، ويثبتها مدّعي القوة الذي يرتجف خــوفاً من الضعفاء، ويغرسها المحتل ليحمي نفسه من أصحاب الأرض».
ويتابع: «على هذه الأسلاك نزفت أيادٍ كبيرة وصغيرة، وتقطّعت شرايين عشاق الأرض… أيّتها الأسلاك البائسة: أيّ هواءٌ يتكسّر عندما يعبر. أيّ خيوط ظلام بارد أنتِ تكبّل الأرضَ الجميلة. أيّ بؤس جارح لخيوط الشمس أنت».
ولو قُدّر للمزارع الأميركي جوزيف غلايدن الذي اخترع الأسلاك الــشائكة من أجل استعمال وحيد هو حماية مزرعته أثناء الهجرات الأولى إلى «الــعالم الجــديد»، أن يعود إلى الحياة، لاندهــش كثيراً بسبب ما آل إليه اختراعه هذا في تعدد استعمالاته القهرية ضد البشر!



صدى الشام